مؤشرات كثيرة إلى أزمات الدولة ظهرت العام الماضي في القاهرة. مؤشرات توحي بأن التفكّك آت لا محال. لكنه موعد لا يزال في طي المجهول، ولا سيما أن ما أوحي بأنه ثورة شعبية في نيسان الماضي، نجح كهنة الدولة في إخماده
وائل عبد الفتاح
«سنة صعبة..» قالها جمال مبارك في اجتماع لجنة السياسات قبل نهاية 2008 بأيام قليلة. نبوءة عرّاف؟ أم اعتراف متأخر بأن الأزمة المالية وصلت مصر بعد طول إنكار؟
اعتراف جمال مبارك يشير إلى أن خبراته بفنون الحكم وصلت إلى حدودها القصوى، فهذا النوع من الاعترافات أو النبوءات يبشر بها الحكام الشعب المصري. أنور السادات كان يسمي السنوات بأسماء سياسية: سنة الحسم، سنة الخروج من عنق الزجاجة. ولم تكن هذه بدعة مستوحاة من الأبراج الصينية. لكنها مهارة حاكم في صناعة محطات درامية تهوّن على الجمهور الأزمات الصعبة.
2008 سنة انتظار لمجهول لم يحدث. تسارعت الأحداث بين تراجيديا انهيار صخور هضبة المقطّم على بيوت تعيش فيها 3 أجيال من «إنسان العشوائيات»، وتحوّل منطقة من الدويقة إلى مقبرة جماعية، إلى كوميديا فوق الخيال في الأيام الأخيرة من العام حين تظاهر عشرات من أصحاب العقارات أمام محافظة الجيزة للمطالبة بالرشى التي دفعوها لمهندسي الحي، ما دام المحافظ مصراً على إزالة المباني المخالفة.
كلتاهما (التراجيديا والكوميديا) تعبير عن تفكك الدولة المنتظرة للمجهول. الدولة تستجمع قوتها فقط في تأمين الاستمرار. هنا تتحول حماية الرئيس وعائلته إلى فوبيا واضحة. وتغلق شوارع العاصمة وتصاب المدينة بالشلل كلما تحركت العائلة التي أصبحت معزولة في دائرة ضيقة. الأمن لا يحميها فقط بل يضعها في ما يشبه العزلة. ويرسم لها حدوداً وخريطة بلد آخر. العزلة المفرطة تكرس الشعور بالخطر والرعب، وخصوصاً أن مبارك هو أول رئيس مصري يرى صورته تتحطم وتداس بالأقدام في نيسان، حين هبّت «انتفاضة الربيع» لتجمع قوى جديدة دخلت الشأن العام عن طريق موقع «الفيس بوك» وقوى تقليدية مثل عمال المحلة الكبرى. شرارة اللقاء أزعجت كهنة الدولة ودفعتهم إلى اتخاذ إجراءت فورية لاستعادة الدولة.
الكهنة لديهم حلول مجرّبة: نفّذوا بعض مطالب العمال وأوحوا للرئيس بفكرة زيادة الـ30 في المئة. وحلولهم مجربة أيضاً مع «ثوار التنظيمات الافتراضية». ضربات أمنية صنعت بعض ذكريات الزنازين والاعتقال أعادت الاحتجاج إلى مرحلة «الكهوف الفردية». لكن هبّات العشوائيين لم ترحم. صنعت رعباً آخر في الشوارع اسمه: التحرش الجنسي. حفلات انتزاع الحقوق والفرص والمتع بالقوة لم تعد صدفة: الغش جماعي. والتحرش جماعي. والعائلات أنشأت ميليشياتها. والحقوق لا تصل إلّا بعصيان جماعي.
هكذا أصبحت الحدود بين الجريمة الجنائية والسياسية قصيرة جداً. السياسة لا تزال ممنوعة وتحوّلت بعض الجرائم إلى تعبير عن صراعات منزوعة السياسة. صراعات قوى انتقلت من ساحات الانتخابات والبرلمان إلى محاكم تناقش كل شيء من حدود أرض الأديرة في الصعيد حتى تصدير الغاز إلى إسرائيل.
الصراع القضائي تأجّل في موضوع الأديرة، لكن هذا لم يوقف جرائم انتقام عائلي بسبب زيجات مختلطة الأديان. الجريمة هي استعراض يرسم الحدود (حتى العاطفية) بين الطوائف. عزلة يبحث فيها المستضعفون عن جماعاتهم الصغيرة (العائلة، الطائفة، القبيلة...). ولهذا شعر الأقباط مثلاً بأنهم في مرمى التصفيات الغامضة عندما وقعت جريمة (كان يمكن أن تكون عادية) ارتكبتها عصابة محترفة ضد بائع مجوهرات.
الجريمة لا تزال غامضة رغم مرور أشهر. ليست وحدها الغامضة. هذه سنة الشك في قدرات الأمن الجنائي. ولا تزال التحقيقات في مقتل ابنة المطربة ليلى غفران وصديقتها طيّ المفاجآت. وبعدما أعلنت جهات الأمن القبض على القاتل، ثارت الشكوك أكثر.
الشك لم يعد غريباً بعد ثبوت تلفيق جهات الأمن مذبحة بني مزار لشخص اعترف تحت التعذيب. المذبحة مرعبة وقتل فيها أكثر من 10 أفراد من 3 عائلات في وقت واحد وهم نيام.
في المحكمة أيضاً انتقمت الحكومة من خيرت الشاطر، عقل جماعة «الإخوان المسلمين»، حاكمته بتهمة غسيل أموال. وكانت هذه الخطوة الأولى في فصل رأس الجماعة عن جسدها.
الجماعة من دون عقلها استسلمت لعملية استرداد الأرض، التي أرادت بها جهات في النظام إعادة «الإخوان» إلى مرحلة «الدعوة في المساجد»، فيما حاولت الأجهزة الأمنية إحياء «الجماعة الإسلامية» أو أجنحتها التائبة.
إلغاء السياسة مستمر. فقط استعراضات مثيرة بين المحكمة والسجن وشاشة التلفزيون والصحيفة. مزاجها سياسي، لكنها خالية من فكرة «الصراع». لا تزال مصر وحيدة القوى.
الصراع الوحيد بين أجنحة هذه القوة الواحدة. وهذا يحتاج في الغالب إلى «صناعة عدو خارجي» لإلهاء الأطراف المتصارعة أو لتحويل أنظار المتفرجين عن المباراة الداخلية. في المباراة الداخلية كانت هذه سنة مصائد رجال الأعمال؛ هشام طلعت مصطفى كان الصيد الثمين، متهماً بالتحريض على القتل. كانت معه رسالة: لا أحد كبيراً على النظام. النظام يريد الهدوء التام: هذه أمنية لم ولن تتحقق.