عبد الحليم فضل الله366 يوماً، كانت كافية لتبديد أكاذيب وأوهام نسجت بإتقان أسطورة التمدن والحداثة. تبدلت ملامح العالم سريعاً، ولم يبق منها غير ظلال باهتة لوعود كانت قاطعة كالنبوات، فلاقت ما لا تستحقه من فروض الإجلال والإيمان. وحين بدا كل شيء وكأنه يفيض عسلاً وثروة، استقال الوعي، وامتزجت الأخلاق بقيم السوق، وشاع أنّ رواية التقدم يكتبها الماكرون لا الماهرون، وأن تحقيق الأمن الاجتماعي رهن للنجاح مهما كان ثمنه. لكننا في عامنا الجديد نعيد اكتشاف الخوف، تقلقنا الوظائف الملغاة و يرهقنا الجري وراء السيولة النادرة، وبات منتهى أمل ثلثي البشر هو الخروج من مستنقع الفقر، وها نحن نتلفت حولنا للتأكد من أننا نسير على الأرض نفسها، وأن زلزالاً جديداً لن يقع في الدقيقة التالية.
وبالرغم من ذلك، من حق عام 2008 أن يوسم بالفرادة، فإلى أن تستجمع الرأسمالية نفسها لتصنع أسطورة أخرى يعقبها انهيار آخر، سوف يتردد اسمه لعقود أو لقرون، وتسيل أفكار ونظريات منسوبة إلى وقائعه وأزماته.
إنه بامتياز عام النهايات.. نهاية الوهم بأن الدول الكبرى تدافع عن الحريات الاقتصادية دون هوادة، بينما كانت في واقع الحال تدير نظاماً ثنائي الاتجاه، من ناحية هناك التوجيه المركزي، الذي يتقمص قوانين السوق ليفرض على البلدان الضعيفة والنامية تدوير مواردها باتجاهه والتخلي عن مكاسبها دون مقابل، ومن ناحية ثانية هناك حريات موسعة تتمتع بها الاقتصادات المتقدمة، وتقارب حدود الفوضى، تسهيلاً لانتقالها إلى مرحلة ما بعد الصناعة، فهذه المرحلة تستدعي تحرراً من القواعد وقيود الرقابة المصممة في الأصل لرعاية عمليات الإنتاج والتوزيع بصورها التقليدية.
لقد حصد العالم في العام الماضي، بضربة واحدة، نتائج تعثر التقسيم الجديد للعمل على المستوى الدولي، وهذا التقسيم الذي بدأت إرهاصاته في نهاية ستينيات القرن الماضي، قام على نقل الصناعات القديمة، بل المريضة على حد تعبير «كينيث جالبريث»، من الشمال إلى الجنوب، لتتفرغ البلدان الصناعية للقطاعات الحيوية، لكن هذه العملية انحرفت في السنوات الأخيرة عن مسارها الأصلي بفعل جاذبية أسواق المال، لينقسم العالم في نهاية المطاف إلى قسمين، واحد تتركز فيه الثروة وآخر يتركز فيه الإنتاج. وتلك مفارقة غريبة لم تكن لتدوم. شهدنا في العام الماضي أيضاً تداعي الفرضيّة التي تفيد بأنّ الممارسة الديموقراطية تكفي وحدها لبناء عالم مستقر تعمّه الرفاهية والعدالة، وأن الحقوق السياسية بمعناها الحرفي (حرية التعبير والعقيدة والاجتماع..) تحظى بالأولوية على سائر أنواع الحقوق الأساسية. لكن ما لم تكن الديموقراطية جزءاً من عملية تنموية متكاملة فليس بوسع المجتمعات التمتع بالحقوق الممنوحة لها، كما أنه لا فرق أبداً بين أولئك الممنوعين من ممارسة حقوقهم السياسية بسبب القمع والمحرومين منه بسبب الجوع والجهل والحروب والمرض.
انتهى أيضاً الاعتقاد أنّ الطبقات العليا داخل الدول وفي ما بينها محصّنة ضد الأزمات، وأن ما يجري حولها وأسفل منها لن يفسد عليها صعودها المتسارع. بيد أن التمادي في التمييز انقلب على المتسببين به، وبدا واضحاً أن أي نظام وطني أو عالمي لا يستطيع تحمل التفاوت الاجتماعي والاقتصادي إلى ما لا نهاية. مع ذلك، هناك من يردد طوال الوقت أنّ العدالة تقع في الضفة المقابلة للكفاءة، فأي دولار إضافي يُحوّل للفقراء أو للخدمات العامة، سيقلل من الرفاهية الإجمالية لعموم الناس بالمقدار نفسه، لكن وقائع العام الماضي أظهرت بما لا يقبل الشك أن تدهور مستويات العدالة كان الشرارة التي أطلقت تسلسلاً من الأزمات لم ينته بعد، وستبقى أصداؤه تتردد إلى وقت بعيد.
من ناحية أخرى، برزت إشارات قوية على وهن الهيكلية القائمة للمؤسسات الدولية بل بدء نهايتها، من الناحية الوظيفية على الأقل، فوكالات الأمم المتحدة المتخصصة بقضايا التنمية الاقتصادية الاجتماعية، وقفت عاجزة تماماً أمام ارتفاع معدلات الفقر وزيادة عدد الجائعين، والتخريب الإجرامي للبيئة، وشهدت هذه المنظمات ترنح الإنجازات على صعيد تحقيق أهداف الألفية الثالثة دون أن تفلح في فعل أي شيء. وقبل ستة أشهر تقريباً حاولت منظمة الأغذية والزراعة الدولية إقناع المشاركين في القمة العالمية، التي انعقدت بدعوة منها في روما، لبناء شراكة فعلية لمكافحة الجوع وارتفاع أسعار الغذاء، لكنها لم تلق آذاناً صاغية. أما المنظمات الدولية الثلاث التي تتمتع بقسط أوفر من السلطة (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) فقد أخفقت في التنبؤ بالأزمة المالية، فضلاً عن تقديم إسهام ملموس لاستيعابها، وكم كان أداء المدير العام لصندوق النقد مثيراً للدهشة وهو يتصرف كأحد محللي الأسواق، فيوجه النصيحة تلو الأخرى، أما خبراء الصندوق والبنك فقد انهمكوا في إطلاق التنبؤات التي لا تلبث أن تتغير، عن مسار الأزمة ومعدلات النمو المرتقبة. وهذا دليل على حاجة العالم إلى جيل جديد من المؤسسات.
أضافت وقائع العام الماضي نهاية أخرى، لنقل إنها ضمور اثنتين من خصائص الأسواق المالية التي فقدت إلى حد ما قدرتها على التسعير الفعلي للأصول التوظيفات، وفعالياتها في الرصد المبكر للأزمات، وإلا كيف انهارت تلك العمارة المالية في غفلة من زمن، وأين ذهبت تلك القيم الهائلة التي ابتلعتها الأسواق، وتساوي قيمتها ثلاثين ألف مليار دولار تقريباً، وما الذي أحدث التقلبات الواسعة في أسعار المواد الأساسية، وجعل أسعاراً تتضاعف ست مرات خلال أربعة أعوام لتفقد معظم مكاسبها خلال ثلاثة أشهر. من الصعب تفسير هذه التقلبات والانهيارات اعتماداً على نظرية العرض والطلب التي أسقطها أداء المضاربين والمحتكرين.
انقضى العام مصبوغاً بدماء أطفالنا وشهدائنا، وكالعادة هناك من «بني قومنا» من يصرخ في وجوه الضحايا، متنكراً لاستغاثاتهم، أليس هؤلاء من لبى دون تردد استغاثات «وول ستريت» فحمل قروشه البيضاء ليوم غيره الأسود.
أليست السياسة والاقتصاد شأن واحد.