كان طفل غزة في بيته. يذهب إلى مدرسته ويتمرّد في وجه أبويه. وسط حصارٍ، خلق لنفسه فسحة أمل. عرف أن إسرائيل شريرة وتقتل الأطفال. اليوم لم يعد كما كان. خسر الكثير من صموده النفسي
ربى أبو عمّو
أمس، بكى طفل غزّة. وجد نفسه ملكاً لهواء قارس، يؤذي عظامه الطرية. هدأ قليلاً. لحظات حتى عاودت عيناه إطلاق الدمع.
جلس على تراب بقايا بيته، يصنع من هذه الحجارة الصغيرة بعضاً من حاجياته المستشهدة. هو لم يصنع شيئاً. تخيّل فقط. شعر بجوعٍ لا يسكّنه.
وأمام منزله يصرخ من الخوف حين تتكرّر أمام عينيه صور ثلاثة أسابيع من حرب إسرائيلية على ماضيه ومستقبله، لتختلط دموعه بالتراب.
يوجد في غزّة توأم لعماد، الطفل الفلسطيني الذي عايش معركة نهر البارد. إلا أنه ظل يعاني.
ترعبه أصوات الرصاص والمفرقعات، فيهرع إلى غرفة نومه، يلف جسده الصغير بالشراشف، محاولاً عزل نفسه عن الموت. بات أحد ضحايا الإرباك النفسي بسبب تكرار صور الحرب، وكثرتها.
صار عاجزاً عن السيطرة على أفعاله. لو لم يرَ عماد صور الحرب، ولم يستشعر التهجير، لكانت حالته أفضل.
هذه هي الحرب. تجرّ وراءها ذيلاً من الآلام النفسية. تعمل المعالجة النفسية، جاكلين سعد، في المؤسسة الوطنية، بيت أطفال الصمود، مع الأطفال الفلسطينيين الذي يعانون من الاضطرابات جراء معركة البارد، والتي يمكن إسقاطها على فلسطينيّي غزة الذين عايشوا العدوان الإسرائيلي الأقسى والأفظع.
وانطلاقاً من هنا، تقول إن «الأطفال الذين يتعرضون لهذا النوع من التجارب القاسية، غالباً ما يعانون حالة أرق ليلي وخوف شديد، تبوّل ليلي، تأخر مدرسي، عدم قدرة على التركيز، الإفراط في تناول الطعام أو الامتناع عنه، إضافة إلى الكوابيس. بعضهم يصبح عاجزاً عن استقبال أي ضجيج، فيصاب برجفة كلما سمع صوتاً أرعبه. وأحياناً، ينعزلون».
وتحكي سعد أن «الأهل هم العنصر الأساسي الذي يتحكم في درجة الخوف عند الطفل في الأزمات، كالحروب أو الكوارث الطبيعية. فكلما كبت الأهل انفعالاتهم أمام أبنائهم، تمتع الطفل بمناعة أكبر».
وتشير إلى أن «احتمال انخراط الطفل في حركات المقاومة وارد جداً، إذا عاش في بيئة تحاكي هذا النمط من العيش، وإذا استمر إحساسه بالظلم».
ولكن هل يمكن لصور المجازر أن تمحى من ذاكرة طفل؟ تشرح سعد أن العلاج «لا يلغي الواقع، بل يساعد على التعامل معه كأمر واقع». كيف؟ تلجأ إلى الرسم، الذي يساعد الأطفال على إسقاط المشاهد التي عايشوها على الورقة.
وأحياناً، يكون تكرار الحديث عن يوميات الحرب عاملاً مساعداً حتى يخرج الطفل كل انفعالاته ومشاهد المجازر من داخله. وتضيف أن «التعبير الجماعي الذي يتم من خلال تمثيل حالة الخوف على مسرح أمام مجموعة من الأطفال الذين يعانون المشاكل نفسها، جيدة، وخصوصاً أنها تزيل إحساس الوحدة من الطفل».
أحمد لم يعد يرغب في الذهاب إلى المدرسة لأنه رأى صديقه يستشهد فيها.
لؤي يشعر بالاختناق بين الحين والآخر. بيسان لا تستطيع النوم بعيداً عن والدتها. «إسرائيل تقتل الأطفال. نحن نكرهها».
محمد يريد أن يستشهد ويقتل «الصهاينة». وليد يشعر بالصدمة، بات يتيماً....
حالات كثيرة تختفي عند حدودها الطفولة ليحل مكانها شيء آخر تماماً. لا مكان للبراءة هنا، حتى اللعب يأخذ طابع القسوة، حين يفرّغ الطفل مكبوتات من الخوف والكراهيّة.
قد تكون حرب غزة انتهت مؤقتاً، لكن تداعياتها سترافق هؤلاء الأطفال طوال سنين عمرهم.