Strong>وائل عبد الفتاحيغرق المصريون في متابعة حوادث تكشف كل يوم عن مخزن عنف صادم. هكذا انتقلت أوصاف مثل المذبحة والحرب من أوساط الحرب العسكرية واستوديوهات السينما إلى الواقع. الواقع في مصر سينمائي ربما أكثر من السينما المصرية ذاتها

■ الأمن مقابل الشهداء



الشهداء في مصر أنواع. الجديد منها مدهش. خفت إيقاع شهداء الحروب بعد 35 سنة على الحرب الأخيرة في تشرين. لم يعد هناك بقايا من الرائحة العسكرية إلا شهداء حدود يضعهم الحظ العاثر في مرمى رصاصات طائشة أو هيجان مسلح. شهداء بالصدفة لا بالقتال.
الشهداء الأكثر إثارة للمشاعر من نوع آخر تماماً. ضحايا عبّارة الموت قبل سنوات الأكثر عدداً (1034) ولا يزالون يثيرون الجدل السياسي حول هروب مالك العبارة (ممدوح اسماعيل) إلى لندن وتغطيته على شبكة من مسؤولين أكبر منه شركاء في العبارة، وفي صنع مأساة مستمرة في إثارة الدموع ولعنات تتحوّل إلى أدعية لله على أبواب المحكمة.
رجل فقد عائلته كلها (زوجته وبناته الأربع) رفض التعويضات وأراد الاقتصاص من المسؤول. أقام دعوى قضائية أخيراً ضد النائب العام السابق (المستشار ماهر عبد الواحد) يتهمه المسؤولية عن هروب صاحب العبارة.
اكتفى المجتمع بإعلان الضحايا شهداء، على الأقل يضمنون «انتصاراً معنويّاً» وتعويضاً بعيداً بدلاً من محاسبة قريبة «مستحيلة». أصبحت المعركة حول الحصول على لقب «الشهادة» هي المعادل «الإلهي» لحركة سياسية ممنوعة. وأصبحت القاعدة؛ تعذّبْ في الحياة ومت ضحية الفساد والإهمال، واحصل على الشهادة. بمعنى آخر «اخسر الحياة... واضمن الجنة».
وهذه صفقة لها شعبية. مريحة لكل الأطراف. الناس والسلطة. وهذا سر اتساع مجال الشهادة متجاوباً مع أزمات حادة.
الشهداء الجدد هم ضحايا حروب الحياة اليومية. وبعد موتى طابور الخبز والمعاشات الحكومية، دخل على الخط شهداء اسطوانة الغاز. حرب الحصول على اسطوانة الغاز لها ضحايا الان بعد وصولها للسوق السوداء وتضاعف سعرها 3 مرات خلال ايام قليلة، واستعادت أجيال حربي حزيران وتشرين ذاكرة الطوابير.
الشهداء يتساقطون كل يوم. في مواقع الحرب اليومية، بينما يرفع النظام درجة الاستعداد الأمني. لم يعد مشهد جبهة الحرب والخنادق والملابس الكاكية مألوفاً. المألوف هو مشهد قوات الأمن لمركزي بملابسها السوداء ومصفحاتها الخضراء الغامقة، تهرول من مكان إلى آخر. من تظاهرة إلى موقع طابور. من معركة أهلية في الشوارع إلى مقر منازل مطلوب إخلاء سكانها.
القوات تتحرك و«الشهداء» تتنوع صورهم وحكاياتهم. هذه مؤشرات أزمة كبيرة يستعد لها المجتمع بمخزون شهداء والنظام بمزيد من الأمن الخائف. الخوف اصبح يسيطر على أجهزة الأمن، ليس خوفاً من تغيير أو انقلاب أو منافسة على السلطة، بل من هبّات غضب عشوائية.
الخوف يتحوّل أحياناً إلى كاريكاتور، كما حدث في معرض الكتاب السنوي. صحافي حكى انه تعرض للتفتيش ١٥ مرة في يوم واحد. صحافي آخر فتشوا اوراقه بشكل لافت وعندما سأل الضابط ماذا يفعل قال له بتلقائية غريبة: «بندور على منشورات». صحافي ثالث فتشوا حقيبة اوراقه وعندما وجدوا اسم محمد حسنين هيكل على أحدها سأله الضابط: ما هي علاقتك بهيكل؟ صحافية احتجزوها أكثر من ٥ ساعات عندما وجدوا في حقيبتها أوراقاً لم يفهموا معناها، ويبدو انهم تصوروها منشورات مشفرة.
هل فعلاً تبحث قوات أمن الدولة عن منشورات في زمن الانترنت؟ وهل يتصورون انهم يمكن أن يحققوا امن النظام بهذه الطريقة الساذجة؟ تصرفات أمن الدولة في المعرض تشير إلى خوف الدولة البوليسية من لعنة الشهداء المحليين. لكن المدهش أن المواجهة تتم بأساليب قديمة تستخدم مخبرين من نموذج المعطف والجريدة المثقوبة.
«معرض» أمن الدولة يفضح شعور الدولة بالخوف. خوف من مجتمع يرضى بالشهادة ويخرج غضبه في جنازات الشهداء.
في المكان نفسه وعلى أرض المعارض كانت الدولة قادرة على تنظيم مناظرة عن الدولة المدنية والدولة الدينية، حضرها يومها جمهور لا يقل عن ١٠ الاف، وضم الفريقان نجوماً في التطرف ومدافعين عن المدنية والعلمانية. حدث هذا منذ ١٤ سنة تقريباً. ورغم أن النظام وقتها كان في عز المعركة مع الجماعات الاسلامية المسلحة، فإنه كان لا يزال لديه بعض الثقة والقوة لكي لا ترعبه مناقشات ثقافية أو آراء فكرية.
النظام انتصر في المعركة مع الجماعات المسلحة، واستطاع أن يدجن كل المعارضة في حظيرته. وحتى «الاخوان» يعرف حدود حركتهم، الا أنه يشعر بمزيد من الخوف. لأن القمع لا يحقق الأمن ابداً. والرعب من غضب الشهداء يدفع النظام إلى مزيد من هوس الأمن.
هكذا فإن معادلة السياسة في مصر خلال أيام الأزمات المقبلة والمتوقعة هذا العام: الأمن مقابل الشهداء.

■ «غسيل العواطف» ينسى المجرم


هاجت الصحف المصرية رغم انشغالها في مذبحة غزة بسبب أخبار تسربت عن شبكة بيع الأطفال. كيف تبيع الأم لحمها؟ أغرقت الدموع البيوت، إلا أنها رفضت الاعتراف بعالم «الأنفاق»، فأبقت المجرم طليقاً
ظاهرة «بيع الأطفال» خرجت من شعب كامل يعيش في أنفاق العاصمة، على مقربة من كل بيت وفي زوايا وأركان أحياء غنية وتجمعات متوسطة. شعب يستقبل جيله الثالث أو الرابع وسط أنفاقه المحفورة في قلب المدينة الضخمة.
الظاهرة لها اسم مختصر: أطفال الشوارع. هؤلاء الآن صاروا شباباً ومراهقين، آباءً وأمهات. عائلة كبيرة تبني علاقاتها بقيم وأخلاق خارج نموذج المجتمع المستقر. القانون الجنسي لشعب الأنفاق يفرز أبناءً بلا آباء. ففي سِتار الليل، تزدهر متعة هي مزيج من الاغتصاب والتجربة الأولى، بين السادية والغواية، بين خصوصية مستورة في الزوايا المهجورة للمدينة، وعلانية جنس جماعي تبدع قوانينه الفوضوية. علاقات ومشاعر خشنة هاربة أو مطرودة من عائلات تنفجر من الداخل.
سكان الشوارع يتزايدون في مصر ويصلون إلى أرقام مذهلة (أقصاها مليون). تتعقد مشكلاتهم رغم أن الملف يحظى بعناية مباشرة من زوجة الرئيس المصري حسني مبارك، سوزان.
لم تفلح الرقة الرسمية إلا في صناعة مؤسسات مؤقتة، تحاول أن تلاحق الظاهرة التي تنذر بمرحلة أعنف مع تعدد أجيالها. فشلت أيضاً في تفادي النفاق الاجتماعي الذي يدمع قلبه من منظر شعب الشوارع، لكنه ينظر إليهم باعتبارهم زوائد لا مكان لهم في نسيج المجتمع.
يعيش سكان الشوارع من دون اعتراف اجتماعي ولا أوراق رسمية. مصير غامض لحياة تتراكم في أنفاق القاهرة. إلى أين ستمتد العائلة الكبيرة المطرودة من رحمة المجتمع؟ هل بيع الأطفال جريمة؟ تبيع الأم طفلها لأقرب مشترٍ أو سمسار بملاليم (250 أو 300 جنيه ما يعادل 40 أو 50 دولاراً).
روت إحداهن أنها حجزت لطفلها المقبل عائلة طيبة وضمنت 2000 جنيه (400 دولار)، والمبلغ مرجح للازدياد إذا كان المولود ذكراً. الثمن هو «خدمة اكسترا». الخدمة الأساسية هي انقاذ الطفل من مصير الأنفاق، من الحياة المرعبة وسط غرائز تجمع بين العصابة والعائلة، بين المجرم والضحية. عالم مفقود أسفل مدينة لا ترحم.
لا يعترف المجتمع بأبناء من دون آباء. ويوجد 11 ألف قضية نسب في المحاكم، وآلاف الأطفال غير الشرعيين يكبرون وسط عائلة الأنفاق وعلى مقربة من أصحاب القلوب الرقيقة، مثل قنبلة موقوتة. مجتمع يرفض الاعتراف، وعندما تبيع الأم طفلها ليضمن عائلة أخرى وربما بلداً آخر (المشتري في الحالات الأخيرة أوروبي وأميركي)، تتحول إلى مجرمة.
من المجرم؟ سؤال لم ينتبه إليه أحد في مهرجان غسيل العواطف.

■ مذبحة الحي الراقيالمكان هو مصر الجديدة، أشهر الضواحي الراقية. شهرة قديمة كان سكانها العابرون للطبقات والمستقرون بجوار أرستقراطية، تحب العزلة والهدوء. اختارت نموذجاً بناه المهندس البلجيكي، البارون أمبان، ليعيشوا فيه «حياة شبه أوروبية».
قاومت مصر الجديدة زحف عشوائية «مدينة نصر»، الحي الراقي بمفهوم دولة العسكر في تموز. لكن الزحف جعلها ضاحية محاصرة مغلقة على سكانها المختلفين عن طبقات «الأغنياء الجدد» الصاعدة في السنوات الأخيرة.
من هنا، بدا ما فعله المهندس شريف نوعاً غامضاً من الجنون المرعب. أخرج البلطة من عدة التصليح المنزلية، وأنهى حياة عائلته كلّها: زوجته (55 عاماً) وابنه (28 عاماً) وابنته (26 عاماً). لحظة جنون كانت الأخف في رحلة معاناة استغرقت ثلاثة شهور بعد خسارته 2 مليون جنيه (500 ألف دولار) في البورصة.
هو اكتئاب البورصة كما يسميه علماء النفس الآن. حزن الرجل الهادئ المتيم بعائلته والناجح في أعماله (يملك شركة كمبيوتر). خاف على العائلة وشعر بأنه مسؤول عن «الفقر المقبل»، وتخيل كيف سيواجه أحبته الحياة بعد الأزمة. فقرر في لحظة تخليصهم منها.
لعبت البورصة برأس المهندس الناجح بحثاً عن قفزات في الثروة. لكن الرجل الذي لم يتعود المغامرة، صدم بسور الأزمات العالمية وخسر.
لماذا البلطة، تلك الآلة البدائية العنيفة؟ هل هو عنف مكبوت في مخزن بدائي يفتقد الأمن؟ أم أنه جنون اللحظات المشحونة بالقلق من المستقبل، واجتياح الأمان المفقود للفقير والغني لساكن المقابر والضواحي الراقية.
كلهم مهزومون أمام منتصر واحد ووحيد يبني مدنه على أطراف المدينة القديمة. يغالي في صنع أمانه لشريحة محدودة جداً، تبني جزيرتها بأنانية مفرطة. كأنها سفينة نوح.
البلطة سر المذبحة. تشير إلى عدوانية من زمن آخر، ورغبة في الخلاص النهائي. فشل المهندس في الانتحار ليتعذب مرة أخرى برواية اللحظة المجنونة التي هدم فيها نموذج العائلة السعيدة كله.
مثالية انتهت بجريمة مفزعة. وجنون يثير الرعب في الناجين من طوفان الفقر. روى المهندس جنونه بينما كان حارس عقارات مطرود من عمله يحتضن طفلته، ابنة العامين، ويقفز من الدور السادس.
مشهد سينمائي نفذه الأب الذي كان يرجو زوجته العودة. لكن لحظة العبث الفالتة من كل الحسابات صنعت مأسأة الحي الفقير لتكمل بها مذبحة الحي الراقي.