عبد الحليم فضل الله مرّة أخرى، يعوّل اللبنانيون على حسن الطالع، فهم حتى الآن خارج العاصفة التي سبّبتها ممارسات الشريحة الأكثر ثراءً في العالم، ولديهم ما يكفي من الأسباب لتجديد الثقة بقطاعهم المالي وسلطتهم النقدية، وإذا كان أداء المصرف المركزي حتى وقت قريب موضع نقاش ومحل تساؤل، وهناك من حمّله قسطاً من المسؤولية عن سوء إدارة الدين العام والفشل في ضبط التضخم، فباستطاعته اليوم دعوة منتقديه إلى مراجعة آرائهم، وأن ينسب لنفسه الفضل في حماية المودعين والمصارف على حدّ سواء. ولن يقف الأمر عند هذا الحد، فقد يُستخدم هذا النجاح للدفاع عن السياسات الحكومية المعتمدة وبمفعول رجعي، مع أن حال السلطة النقدية في لبنان لا تقاس عليه أحوال السلطة المالية. ففي الوقت الذي ركز فيه مصرف لبنان على عنصرَي تثبيت الثقة وخفض المخاطر، وبادر في وقت مبكر إلى الالتزام بمعايير بازل 2، مضيفاً إليها طبقات أخرى من المعايير، مثل حث المصارف على الاحتفاظ بمعدلات سيولة مرتفعة، ومنعها من الانخراط بممارسات مالية خطرة، كانت الحكومة تقوم بممارسات مماثلة، فتضخم البنود العقيمة في الموازنة، وتفرط في استخدام «حقها السيادي» بالاقتراض بالعملة اللبنانية، وترفع معدلات الفائدة الحقيقية على الدين العام بأكثر مما تمليه المخاطر.
من المبكر الحكم على كفاءة السلطة النقدية، بناءً على صحة الإجراءات التي فرضتها على المصارف، فهناك عوامل أخرى ساعدت على تجاوز الموجة الأولى من الأزمة دون خسائر كبيرة. من بينها أن القطاع المصرفي لم يبدأ رحلة الخروج من حضانة الخزينة العامة إلا متأخراً، ومن دون تخطيط مسبق، ولأسباب طارئة مثل تصاعد التوتر الداخلي، واعتماد الحكومة أكثر فأكثر على المساعدات الخارجية، وتدفّق الودائع من الخارج هرباً من تشدد الإجراءات الدولية.
ثم إن الأزمة العالمية تركزت حتى الآن داخل حدود الاقتصادات المعولمة التي تملك أسواقاً مالية متطورة، وتسجل حضوراً ملموساً في حركة التبادل الدولي. ربما فوجئ كثير من اللبنانيين بمدى هشاشة اندماج اقتصادهم في الاقتصاد العالمي، وانفتاحه الوهمي على الخارج، وآليات عمله العتيقة، ومع أن ذلك أنقذ المصارف من التورط في معاملات غير مأمونة، فقد جاء معاكساً لدعاوى فضفاضة عن «لبنان المعولم قبل العولمة»، والمندمج أكثر من محيطه بالاقتصاد الحديث. إن شأن لبنان في ذلك هو شأن معظم الأسواق المالية العربية، التي لا تزال محدودة الارتباط بالأسواق العالمية، فكان انكشافها على الأدوات المالية المصابة محدوداًً، أما التقلبات الحادة التي شهدتها فتعود إلى سوء التنظيم والذعر الذي أصاب المضاربين وتفضيل المتعاملين السندات الحكومية على غيرها من الأوراق المالية. وكان للسوق اللبنانية نصيبها من التقلبات، لكن بتأثيرات طفيفة نظراً إلى ضآلة حجمها وضعف تداولاتها. ومهما كانت الأسباب التي حفظت الاستقرار، فإنها لا تبرر التعامل مع الأزمات على أنها فرص جاهزة، تغني عن بذل أي جهد، وتبرئ ذمة السلطات من موجبات التصحيح والمراجعة. إن أقل ما ينبغي لراسمي السياسات القيام به الآن، هو التحلي بالمرونة الكافية في مواجهة الظروف الاستثنائية، كي يتسنى التعامل مع الموجات التالية المقبلة: تباطؤ، ركود، انهيارات مالية أخرى محتملة... والبحث في المسائل الملحّة، وخصوصاً منها تدعيم العملة الوطنية وتحويلها إلى عملة ملاذ، والتعويض عن النقص في تحويلات المغتربين، والتحسّب للتطورات المقبلة في الأسواق المالية التي قد تنعكس سلباً على كلفة الدين العام ومصادره. إن أي مقاربة جديدة تتعامل مع المخاطر الآتية عليها أن تركز على الأمور الآتية:
أولاً: خلال العام المقبل سيتأثر النمو في لبنان بركود الاقتصاد العالمي عبر خفض الطلب الخارجي على السلع والخدمات اللبنانية، أو بسبب تراجع تحويلات المغتربين من 20% إلى30%، فيما يتوقع أن يزداد تدفق الودائع الباحثة عن أسواق مستقرة. إن حاصل هذين الأمرين سيكون موجباً فيما لو جرى وضع هذه التدفقات في خدمة النمو وتحريك دورة الإنتاج.
ثانياً: لا يمكن لليرة اللبنانية أن تتحول إلى ملاذ للهاربين من العملات الأخرى المضطربة، ما لم تتم مراجعة سياسة الربط الدقيق بالدولار. قد لا يكون الوقت مناسباً للعبث بمعادلة الصرف في ظل ما يحيط بالأسواق من مخاطر، لكن في توقيت مدروس بعناية، لا بد من إيجاد معادلة بديلة ومركبة، تعيد لليرة موقعها كعملة أولى للادّخار والمعاملات، ولا تعود في إطارها مجرد أداة حسابية للتعبير عن عملة أخرى.
ثالثاً: في العامين الماضيين نمت باطّراد قروض الاستهلاك والقروض المخصصة للأفراد. إن ملاءة المقترضين تعتمد بصورة جزئية على التحويلات الدورية من الخارج التي تتم في العادة بين أفراد العائلة الواحدة، وبما أن حجم تلك التحويلات سيتناقص تأثراً بركود الاقتصاد العالمي، فإن على البنك المركزي والمصارف اللبنانية القيام بالاحتياطات المناسبة، إزاء خطر انتفاخ محفظة الديون الرديئة.
رابعاً: تواجه الخزينة العامة تحدّيين: انشغال الدول الداعمة بمشاكلها الخاصة، وتقلّص السيولة الدولية الذي سيترتب عليه لاحقاً زيادة في معدلات الفوائد. إن ارتفاع خدمة الدين وصعوبة الوصول إلى مصادر التمويل الرسمي الخارجي سيضطرّان الحكومة إلى الاعتماد مجدداً على المصادر الداخلية للدين، وعليها منذ الآن أن تدخل التعديلات المناسبة على سياسات التمويل تحسّباً لهذا الاحتمال. ما زال مصرف لبنان يغرف من رصيد الخبرة الذي كوّنه في النصف الثاني من الثمانينيات، وما زالت الحكومة تعتمد على توجّهات رسمت أوائل التسعينيات. لكن الجمود في هذه المرحلة المليئة بالمفاجآت لن يعزز الاستقرار، وسيجعلنا هدفاً سهلاً، فنحن لم نتخطّ تبعات الأزمة، بل علينا بذل جهد متواصل لتحقيق ذلك.