Strong>وائل عبد الفتاحمصر في انتظار تغيير من أسفل. تغيير من دون عقل. هبّات عشوائيين ينفجرون كما لم يحدث من قبل. انفجاراتهم هي الأحداث الكبرى وحركتهم تعبير يومي عن قنابل الجوع الموقوته. هذه حكايات عن هبّات انفجرت من أحداث صغيرة طرفها الغائب الحاضر هو السلطة

حفلات الهستيريا الجماعية



«بروفة التغيير»، لم تكن الشهقة هي ردّ الفعل المندهش الوحيد على التحليل الذي ربط بين «التحرّش الجنسي» و«التغيير» السياسي في مصر. قبل أن يكمل صاحب الرأي الصادم: «لإنه التغيير المتاح» أو بتعبير أكثر اكتمالاً «هكذا سيكون الانفجار».
المعنى السياسي لحفلات التحرّش الجماعي ربما يكون صادماً لبعض المنتظرين لأمل الإصلاح، لكنه معنى يكبر كل يوم. «التغيير سيأتي مثل حركة البخار في إناء محكم الإغلاق». النظام بأجهزته الأمنية وصحافته أنكرت «حفلات التحرش الجماعية» قبل عام، لكنها هذه السنة لم تستطع إلا الاعتراف بها. طاردت مراهقين عشوائيين هبطوا على المدينة في عصابات شبه منظّمة يمارسون الفرحة بالعيد على طريقتهم.
«إذا كان هذا هو الفرح... فكيف سيكون الغضب؟» كان السؤال وإجابته المتاحة: «اقتناص المتع بهذه الطريقة سيصبح عادة. وسيهبط المطرودون من رحمة النظام على قلب المدينة. يحاولون استعادة حقوقهم وساعتها سيأتون على الأخضر واليابس».
المتحدث مخرج سينمائي يتخيل مشهد «ثورات الجوع» في الأفلام التاريخية، بينما السياسي المخضرم تمهّل قبل أن يقول: «أحزمة البؤس المحيطة بالعاصمة ستنتقم وستوجّه انتقامها إلى منتجعات الأغنياء. وسيكون هذا هو ردّ الفعل المتاح على سنوات الظلم والطرد من العناية».
ربما كانت حفلات التحرش في شكلها الأولي رد فعل على تحوّل القاهرة إلى مدن بلا شوارع وبلا مكان عمومي لممارسة الحرية. الحرية في تصميم النظام السياسي ليست علنية، بل سرية ومن حق أقليات مختارة وتُمارس خلف أسوار مستعمرات الأغنياء. والنخبة السياسية، حتى المعارضة، لم تهتم بتحرير الشارع إلا مع تظاهرات «كفاية»، التي حاولت كسر الأسوار. وحدهم «الرعاع» و«العشوائيون» القادمون من جهات الفقر في القاهرة هم الذين يحاولون كسر علامات السلطة في وسط المدينة. يحاولون اقتناص مساحتهم رغماً عن قوانين السلطة، فيسيرون في منتصف الطريق في شوارع وسط البلد، ويحتلّ بائعو البضائع الرخيصة الأرصفة وتقاطع شوارع العاصمة.
هكذا يمكن اعتبار حفلات التحرش احتفال «هستيريا جماعية» خارج السيطرة أو كما يقول عالم النفس، الدكتور أحمد عكاشة، «هي نوع من غريزة القطيع. يبدأ عادة بشخص بين الجمهور أو المجموعة الكبيرة. ويكون الآخرون في حالة استعداد واستهداف. ويتبعون القيادات بالضبط مثل جمهور كرة القدم. يجلسون في هدوء حتى يتحرك قيادي ما وتتحرك خلفه مجموعات. يحدث هذا حتى في التظاهرات، تبدأ عادة بـ30 أو 40 شخصاً وتتحرك الجموع بإحساس الحرمان أو الغبن أو القمع. وعادة ما تزيد هذه المشاعر مع الازدحام حيث يقل الالتزام بالقيود الاجتماعية، وتتحلل الروابط ويبدأ التمركز حول الذات أكبر من التمركز حول الآخرين. أي ينسى الإنسان نفسه ويتوحّد مع جموع هائجة».
جمهور الهياج الجماعي كله من المراهقين والشباب. وهذا يعني، حسب عكاشة، أن «كلاً منهم مملوء بطاقات جنسية يصعب التنفيس عنها في مجتمع مثل مجتمعنا. والحل كان في امتصاص تلك الطاقة عبر قنوات مثل الإيمان والانتماء لعقيدة أو فكرة أو حزب سياسي والرياضة والفن. لكن إذا نظرت إلى ما يحدث في مصر، فستجد أن قنوات امتصاص الطاقة الجنسية مسدودة. الرياضة أصبحت رفاهية لا تمارسها سوى قلّة قادرة، حتى المدارس هي كتل اسمنت يحشر فيها الطلاب ولا يمارسون رياضة ولا غيرها. كذلك فإنه ليس مسموحاً لطالب الجامعة الانضمام إلى مبادئ وعقائد أو أحزاب سياسية. يبقى الفن الذي كان الهادف والممتع منه يكفي لامتصاص الطاقات المكبوتة، إلا أن الإعلام تحوّل الآن إلى طرب وتسلية بلا ثقافة، واختزل الدين إلى طقوس من دون الجوهر».
ثورات القطيع أو الرعاع أو العشوائيين هي الظاهرة الأكثر استعداداً للاتساع. ثورة ليست ضد السلطة، ولكنها ضد المجتمع. النخبة القديمة والعجوز قد لا تهتم بحرية امرأة في السير بحريتها في الشارع من دون تحرشات. لا تعتبر النظرة التقليدية للسياسة أن حرية السير في الشارع هي حق سياسي. وأن الهستيريا الجماعية التي تتحرك مثل القطيع وراء قطعة لحم يريدون تعريتها أو لمسها بالقوة، قوة القطيع وفوضى الرغبات المكبوتة، هذه الهستيريا هي تعبير سياسي وإن كانت التعليقات المكتوبة في المدوّنات فيها بعض المبالغة أو التهويل.
ثورة الجوع الجنسي سياسية بمفهوم أوسع من الذي تعوّدنا عليه. وهي ليست مجرد سقطة أخلاقية جماعية أو أخطاء أمنية في حماية المواطنين.
لكنها جزء من فكرة أكبر، وهي أن المجتمع في مصر فاقد للتنظيم وبلا قانون يرسم العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين الفرد والسلطة. يمكن لضابط في شارع طلعت حرب أن يستمتع بتوقيف شباب يحملون زجاجات بيرة ليلاً ومضايقتهم، رغم أن هذا ليس من حقه ولا من حق أي شخص ما داموا لم يعتدوا على حرية أو أمان أشخاص آخرين. لكن الضابط يرى أنه وحده، وفي المساحة التي يقف عليها، ملك. يطبق قوانين من صنع هواه وخياله. وهو هنا يتصور أنه مراقب أخلاقي، لا منفذ قانون. لا يُمنع المواطنون من شراء البيرة أو شربها في محال يقوم الضابط نفسه بحمايتها.
وهو المنطق نفسه الذي يطارد به الشباب فتاة في الشارع، فهم طامعون فيها ولكن قبل ذلك يقومون بتعريتها من حقها ويمارسون عليها رقابة أخلاقية تضعها في خانة «المثيرات جنسياً» ويحق عليها العقاب: التحرش والمضايقة كنوع من ممارسة سلطة سلبية تمنع النساء من حق الحرية والأمان فى الشارع.
ربما لا تكون ثورة الجوع الجنسي جديدة. لكنْ هناك احتياج إلى «ثورة مضادة» تطالب بشارع نظيف من التحرش. وربما ستكون حركتها هي الأقوى في طريق الإصلاح السياسي لأنها ترفض سيطرة الغوغاء على الشارع بنفسية الضعيف الذي يقتنص فريسته وفق قانون يخضع للأقوياء ويحميهم، بينما يترك الضعفاء في حرب أهلية.
إنها ثورة ضد الخوف، ضدّ السلطة والغوغاء معاً.

الثورة على الشرطة



«ثورة سمالوط» لم تكن الأولى في تاريخ الاعتداء على قوة الشرطة. المدينة التابعة لمحافظة المنيا تحوّلت بشكل غير متوقع إلى مسرح لإحدى هذه الثورات التي تستهدف أقوى رموز السلطة
خرج أهالي سمالوط، أمس، في جنازة هزّت «أمن البلد كلها». حضرها 3 آلاف من سكان المدينة الصغيرة وما حولها من مدن. الجنازة لم تكن واجباً اجتماعياً هذه المرة، لكنها تضامن جماعي غير منظّم ضد جبروت ضابط اقتحم بيت شخص متهم بالسرقة. وعندما لم يجد لا المتهم ولا المسروقات نفّذ تلقائيّاً خطة «خطف الرهائن»، وهي خطة تتبعها أجهزة الأمن في السنوات الأخيرة عندما تذهب للقبض على متّهم ولا تنجح في العثور عليه، فتقرر أن تخطف أحداً من أقاربه ليعترف بمكان وجوده، أو يجبر المتهم على تسليم نفسه لكي يوقف إهانات الأعزّاء وتعذيبهم، وخصوصاً إذا كانوا من النساء.
الأسلوب أصبح معتمداً، ومن طول استخدامه لم يعد مثار دهشة. لكنه يثير بين فترة وأخرى حزازات في أماكن مغلقة على التقاليد القديمة، مثل الصعيد. فالسلطة ورموزها تقتحم حرمة البيوت، وهذا وحده إهانة شعرت بها قتيلة سمالوط واعترضت عليها. «كيف يقتحم رجل غريب البيت ولو كان يرتدي الميري ويعلق على أكتافه دبابير الرتبة.
وأنا وحدي من دون رجلي الذي يعمل في ليبيا»، هذا ما قالته بالتأكيد ميرفت عبد الفتاح، وهي تصرخ محتجة في وجه الضابط. رأته وهو يسحب امرأتين من عائلة زوجها، فزاد احتجاجها وعلا صراخها وأرادت منع الضابط من اقتحام حرمتها. لكن الضابط من النوع الجديد الذي يعمل خارج القانون، وليس في خدمته، ويتعامل مع كل المواطنين على أنهم مجرمون حتى يثبت العكس.
الضابط الفتوة ركلها في بطنها الذي يحمل جنيناً على وشك الخروج إلى الدنيا. الركلة قتلتها وقتلت الجنين بسرعة أذهلت الضابط نفسه وحوّلته في لحظة من «منفذ القانون» إلى «مجرم خارج على القانون».
ثورة الأهالي نموذج مصغّر لعصيان السلطة. العصيان لم يكن خافتاً، بل كان عالي الصوت ومتحدّياً وعنيفاً. أجبر أجهزة الأمن على تحقيق سريع في القتل، واستدعت النيابة الضابط المتهم. وكالعادة طبعاً، حاصرت قوات إضافية سمالوط. مشهد هو علامة من علامات عدم السيطرة.
واعتداء عشوائي على الشرطة يكشف عن الشعور بأنها لم تعد حامية للقانون والعدل، بل طرف في صناعة الظلم. فالمتمردون على الشرطة ليسوا عصابات أو مطاريد العدالة، لكنهم مطاريد العدل، محرومون من أبسط الحقوق وتتعرض حياتهم يومياً لانتهاكات غير مسبوقة. هؤلاء هم ضحايا يعلنون وجودهم بثورة الأنفاس الأخيرة. ثورة اختلطت فيها الولادة بالموت.

أبطال التطرّف الأعمىظهر القاتل في الظلام وفاجأ شقيقته وزوجها وابنتهما ببندقية آليه ليقتل الزوج وتصاب الزوجة في كتفها. أهالي المنطقة سهروا حتى الصباح في انتظار القاتل. لكن الأمن منع الاقتراب من مسرح الحادث، لكنه لم يمنع ثورات غاضبين طاردوا القاتل وهو في أيدي الشرطة، ثم اقتحموا الكنيسة مطالبين بالثأر من «بطل المذبحة الطائفية».
وهو بطل بالتأكيد من وجهة نظر مسيحيين متطرفين شعروا بالغضب الديني لأن فتاة قررت التحول إلى الإسلام والزواج من مسلم. شعروا بإهانة وهزيمة في حرب «دينية». وهي في الحقيقة حرب بين ضعفاء، كل منهم يستقوي بجماعته الصغيرة، ظهر خلالها داعية تلفزيوني (الدكتور زغلول النجار) مطالباً باستعادة وفاء قسنطين من دير وادي النطرون. دعوة أثارت الرعب وأغلقت بسببها أديرة منطقة البحر الأحمر كلها خوفاً من اقتحام المسلمين المتعصّبين لها بحثاً عن بطلة الأحداث الملتهبة قبل 5 سنوات.
وفاء مهندسة زراعية. عمرها وقت الأحداث 47 سنة. كانت مسيحية وأصبحت مسلمة. ثم عادت مسيحية. قبل هذا كانت تشعر برغبتها في إنهاء حياتها الزوجية. لكن قوانين كنيستها لا تسمح. ظلت عامين تطلب ويرفض طلبها. قررت التحول إلى الإسلام. وحتى هذه المرحلة كانت القضية شخصية. لكنها تحوّلت إلى كارثة سياسية. فتنة طائفية. أصبحت قضية عامة.
ولم يكن هذا هو التغيير الوحيد. لكنها قبل الأزمة كانت في بيتها بين أولادها. والآن هي حبيسة الدير بإرادتها وضد إرادتها، لا أحد يعرف الحقيقة.
وفاء رمز من القضايا التي تشير إلى احتقان لم تعد فيه مصر تتحمل مغامرات عاطفية بين أبناء الديانتين الأساسيتين. مغامرات دخلت في إطار الغضب العشوائي. غضب ينفجر عادة لأسباب تتعلق بجانب أخلاقي أو ديني. وغالباً يكون بداية الخيط من حكاية امرأة.
وهذا ما حدث تقريباً في حكاية وفاء قسطنطين ومذبحة الأميرية. المرأة تفاجأ بأن مشاعرها تجاه زوج مسلم تحوّلها إلى بطلة أحداث كبيرة. لكنها في ظل غوغاء لم يكن هناك مساحة للعقل أو التفكير أو حتى نزع الفتيل من قنبلة الفتنة والتطرف.
أبطال التطرف الأعمى هم أبناء الحرمان من الانتماء إلى مجتمع كبير يمنحهم حق الحياة الكريمة.