ليبيا ما بعد «العقيد»: رجال الخيمة vs سيف الإسلام


القاهرة ــ خالد محمود رمضان
هل ثمة سر في تمكن الزعيم الليبي معمر القذافي من البقاء حاكماً لليبيا طوال الـ 39 عاماً الماضية؟ وكيف استطاع، وهو يشاهد تعاقب عشرات الرؤساء الأميركيين ورؤساء حكومات دول الغرب وانهيار أنظمة وتلاشي أخرى، أن يحافظ على مقعده في منطقة الشرق الأوسط المعروفة أساساً بتوتراتها. ليس في الأمر أي سر، فهو نجح في البقاء لأنه لا أحد استطاع أن يجاريه في إدارة اللعبة. ويوضح أحدهم أن «مصالح الولايات المتحدة والغرب قضت بالحفاظ على النظام حتى في أسوأ الظروف، فالبديل غامض وغير مأمون العواقب، والنفط يتجه طبيعياً إلى الأسواق الغربية والأميركية، والقذافي يتعاون في مكافحة أي نشاط للجماعات الإسلامية».

ماذا يمكن أن يحدث في ليبيا في اليوم التالي لغياب معمر القذافي؟ بالتأكيد لا أحد يمتلك الإجابة عن هذا السؤال، الذي لا شك يشغل جهات أمنية واستخبارية عديدة في العالم.
عملياً، لا شريك للعقيد في عملية اتخاذ القرار السياسي. «هو المسؤول الأول والأخير»، كما تقول مصادر عربية وغربية في طرابلس، ولا شخص آخر غيره قادر على اتخاذ أي قرار مصيري.
ويعتمد النظام السياسي الليبي على قاعدة ضيقة من النخبة التكنوقراطية، تتراوح ما بين 20 إلى 30 شخصاً، في تسيير مختلف القطاعات المهمة والرئيسية. لكن المثير أن هذه القاعدة الضيقة لا تتفق مع فلسفة النظام الجماهيري المطبق في ليبيا، الذي يدعو إلى المشاركة الشعبية الواسعة والنشطة في إطار صنع السياسات العامة وتنفيذها في المجتمع الليبي، وبالتالي فهي تكون محيّدة عن التوجهات العامة للدولة، وعملها محصور بالجانب الإداري.
تحييد هذه النخبة سبقه تحييد مجلس القيادة التاريخي للثورة؛ فمن بين أعضائه الـ12 الذين قاموا بانقلاب عام 1969، لا يوجد سوى خمسة فقط على قيد الحياة، أولهم الرائد عبد السلام جلّود، الذي كان إلى مطلع التسعينيات بمثابة الرجل الثاني في النظام قبل تجميد نشاطه ونزع صلاحياته، يليه الرائد عبد المنعم الهوني الذي يتولى حالياً منصب مندوب ليبيا لدى الجامعة العربية، بعدما أمضى قرابة ربع قرن في معارضة القذافي، قبل المصالحة بينهما.
ويبقى أبو بكر يونس جابر، الذي يشغل نظرياً حقيبة الدفاع. لكن لأن الجيش لم يعد له رسمياً أي وجود، فالمنصب بلا اختصاصات تقريباً، فيما تحول الخويلدي الحميدي ومصطفى الخروبي إلى متابعين لبعض الأنشطة المحلية بعدما تم تفريغهما من أي خلفية عسكرية أو شعبية.
وأقرّ القذافي أخيراً بأنه تعمّد إبعاد الرفاق والضباط الأحرار عن تولّي السلطة في ليبيا خشية احتكار الثورة والسلطة. وهذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي يعترف فيها القذافي بأنه وراء إقصاء رفاقه القدامى ومن شاركوه في تنفيذ الانقلاب، الذي مكنه قبل نحو 39 عاماً من إطاحة نظام الملك الليبي إدريس السنوسي.
وكما يقول عضو سابق في مجلس قيادة الثورة، لـ«الأخبار»، «لا يستطيع هؤلاء مغادرة البلاد أو التحرك في الداخل من دون إذن القذافي شخصياً، ومنذ فترة طويلة لم يعقد المجلس نفسه أي اجتماع، حيث استعاض القذافي عنه باجتماعات غير دورية مع بعض رفاقه القدامى وأسرهم».
لم يترك القذافي معارضيه في الخارج، وخصوصاً في الدول العربية، من دون مضايقات أو محاولة لاستمالتهم. واقتضى الحفاظ على علاقاته مع هذه الدولة أو تلك في بعض الأحيان تسليم المعارضين أو حرمانهم ممارسة أي نشاط سياسي، ما جعل المعارضة الليبية في نهاية المطاف منزوعة السلاح.
ولعل في حادث الاختفاء المثير للجدل الذي تعرض له وزير الخارجية الليبي الراحل، منصور الكيخيا، في شهر كانون الأول عام 1992، بينما كان يحضر مؤتمر للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة، خير دليل على ذلك. كذلك فإن بعض المعارضين الليبيين مثل رئيس الوزراء الراحل عبد الحميد البكوش آثر السلامة وتوجه قبل وفاته من مصر إلى السعودية.
«ومن لم يعد بسيف المعز عاد بذهبه» عبر وساطات نشطة لسيف الإسلام، الابن الثاني للقذافي، الذي نجح في إقناع عشرات المعارضين بالعودة إلى أرض الوطن آمنين مطمئنين، ولكن إلى حين، إذ تعرضت عودة بعض هؤلاء إلى انتكاسة صاحبتها عملية اعتقالهم لبعض الوقت، كما في حالة المعارض الدكتور إدريس بوفايد، الذي اعتقل مع آخرين قبل أكثر من عام بتهمة محاولة تنظيم اعتصام سلمي في طرابلس. كذلك زج القذافي بفتحي الجهمي، وهو محافظ سابق، في السجن بعدما كتب إليه رسالة شخصية يتهمه فيها بالديكتاتورية ويحذره من عواقبها.
في المقابل، فإن اللجان الثورية تعمل خارج إطار القانون وتراقب اللجان الشعبية والمواطنين وتتحمل مسؤولية تصفية المعارضين في الداخل والخارج، ومكتب الاتصال باللجان الثورية هو حلقة الوصل بينها وبين العقيد القذافي.
«في ليبيا فوضى منظمة، يتحكم فيها رجل واحد بمساعدة بعض أبنائه والمقربين»، مقولة لصحافي غربي زار ليبيا الشهر الماضي وعاد ليتحدث عن نفوذ «رجال الخيمة»، وهو تعبير يقصد به المسؤولين الأكثر قرباً وحظوة لدى القذافي والمسموح لهم بدخول خيمته البدوية في أي وقت.
رجال الخيمة المقربون عددهم ينقص ويزيد حسب الظروف، لكنهم في كل الأحوال ليسوا أكثر من عشرة أشخاص بمن فيهم موسى كوسة وعبد الله السنوسي، وهما من قيادات الاستخبارات الليبية، بالإضافة إلى أحمد وسيد قذاف الدم، ابني عمومة القذافي. ما بين رجال الخيمة وحرص القذافي على اكتساب ابنه شرعية جديدة، يكمن مصير سيف الإسلام وربما نظام والده بكامله. فمستقبل ليبيا يتوقف، كما يعتقد الكثيرون، على اعتماد مبادرة سيف الإسلام خياراً رسمياً للدولة وبرعاية القذافي الأب بديلاً من الخطابات الجماهيرية الصاخبة المفعمة بالوعود الوردية غير الحقيقية، بينما تسحق معاناة العيش رجل الشارع العادي.
يعتقد القذافي، الذي لا يشغل أي منصب رسمي في الدولة الليبية ولا يحب تلقيبه بالرئيس أو الزعيم مكتفياً برتبته العسكرية «العقيد»، أن تبادل السلطة يعني «معاملة الشعوب مثل الحمير». وبينما يستعد لتوزيع عائدات النفط مباشرة على الليبيين الذين ينتظرون نهاية العام الجاري لتوديع حكومتهم نهائياً، لا أحد بإمكانه تصور أن الثورة قد قامت فعلاً في ليبيا.


«لا شيء سوى النظام»

«معارضو النظام إما في السجن وإما في الخارج، هناك لا شيء سوى النظام والنظام فقط»، تلك خلاصة تجربة دبلوماسى غربي أمضى نحو خمس سنوات في ليبيا، وأكدتها لاحقاً نتائج الاستطلاع الإلكتروني لموقعي «منتدى ليبيا للتنمية البشرية والسياسية» و«الشفافية ليبيا».
وعكست النتائج بصدق الحالة الغالبة التي تسيطر على الليبيين، وهي أن النظام لا يزال الأقوى في هذه المرحلة (35.40 في المئة)، ولم تحصل كل القوى الأخرى على أي نسب ذات معنى (القبائل 13.7 في المئة، المثقفون والأكاديميون 11.11 في المئة، نشطاء المجتمع المدني 10.34 في المئة). وربما حملت هذه النتائج دلالة مهمة على انخفاض نسبة المؤيدين لخيار العسكريين ( 3.88 في المئة)، وهذا يعكس صورة صادقة لمكانة العسكر في الوقت الحاضر، وهي مكانة في غاية الضعف. أما قوى المعارضة الليبية فجاءت نسبتها مقاربة لغيرها من القوى في الضعف والتدني (9.82 في المئة).