عبد الحليم فضل اللهتظهر الأسواق المالية مرة أخرى، عجزها عن القيام بتصحيحات تلقائية، بل تبدو غير قادرة أصلاً على أن تسيّر نفسها بنفسها. الفقاعة العقارية التي انفجرت منذ صيف 2007، دليل قوي على صحة هذا الرأي، شأنها شأن أزمات سابقة، كالهبوط الحاد في نازداك عام 2000، وانهيار داو جونز عام 1987 الذي خسر دفعة واحدة 23% من قيمته بسبب نزوح 200 مليار دولار من وول ستريت. الخطير في الأزمة الراهنة هو بعض أوجه الشبه بينها وبين الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، فمن ناحية هناك إفلاسات متسلسلة شملت حتى الآن مؤسسات مالية ومصرفية كبرى، ومن ناحية أخرى هناك تداعيات بالغة السوء على النمو العالمي يتوقع أن تدوم لفترة طويلة، لكن لنلاحظ هنا أنّ الكساد الكبير جاء على أثر انخفاض عارم في الطلب وتراجع حاد في أحجام المبيعات وأسعار السلع الرئيسية، بينما تتزامن التطورات الحالية مع ارتفاع في الطلب العالمي، الأمر الذي يشير إلى وجود عوامل خارج السوق تزيد المشكلة تفاقماً.
ما يلفت في هذه الأزمة هو أرقامها الفلكية، فخسائر المصارف والمؤسسات المالية تجاوزت 1000 مليار دولار خلال عام، وتقدر الديون العقارية الأميركية، بحوالى 23 تريليون دولار تقريباً، أي حوالي 166% من الاقتصاد الأميركي و40% من الناتج العالمي. ويتوقع أن يُسحب خلال بضعة أيام 500 مليار دولار من السيولة العالمية لتدعيم أوضاع المؤسسات المتداعية، ما يطلق صافرة الانطلاق لدورة الركود المرتقبة.
من المبكر الحكم على نتائج أزمة لم تكتمل بعد، لكن الوقائع التي بدأت قبل أكثر من عام تؤكد جملة من الحقائق الهامة.
أولاً: هناك جانب سياسي للأزمة. فأسباب الفوضى الراهنة لا تنحصر بضعف الرقابة، وسوء أداء المديرين، ومحاولة المستثمرين تعويض خسائرهم عبر الانسحاب الجماعي، إنّها وثيقة الصلة بقصور السلطات النقدية، لأسباب بنيوية، عن التكيف مع متطلبات تمويل حروب ضخمة و«مرسملة» كالتي تديرها واشنطن. كل ما فعله مجلس الاحتياط الأميركي في هذا المجال، هو الانتقال سريعاً من سياسة الفائدة الصفرية التي اتبعها بعد انفجار فقاعة شركات الإنترنت، وعلى أثر أحداث 11 أيلول، إلى رفع الفوائد تحاشياً لخطر التضخم، بعدما ضاعفت الحكومة الأميركية قروضها لتمويل إنفاقها العسكري الهائل، هذه الإجراءات كانت قليلة الفعالية، لكنها تركت آثاراً سلبية واضحة على الاستقرارين المالي والنقدي في العالم.
ثانياً: إنّ تكاثر المؤسسات المالية لم يكن ظاهرة صحيّة، إذ زاد من سيولة النظام الاقتصادي، وقلل من عدالة توزيع الموارد وفعاليتها، وجعل من السهل امتصاص فوائضه كلما زادت حاجة الدول الصناعية للأموال السائلة. فقد ضخت الصناديق السيادية في الأسواق حوالى 90 مليار دولار منذ انفجار أزمة الرهون، ومع ذلك تواصل الولايات المتحدة الأميركية جهودها لفرض هيمنة أكبر على استعمال أصول هذه الصناديق البالغة ما بين 2 و3 آلاف مليار دولار، والمتوقع أن تتضاعف أربع مرات خلال السنوات الخمس الآتية. المفارقة هي أنّ وزارة الخزانة الأميركية التي تحثّ الدول الأخرى على توفير مزيد من السيولة لمواجهة الأزمة، تمتنع حتى الآن عن استعمال الأموال العامة لنجدة المؤسسات المالية التي تصارع من أجل البقاء، فالأسواق الرأسمالية على حد تعبير الرئيس الأميركي مرنة بما فيه الكفاية كي تعيد تنظيم نفسها على المدى البعيد، ولو بكثير من الآلام.
ثالثاً: ما يحدث في الأسواق هو إعلان نهائي لفشل المبادئ المنظمة حالياً لعمل الأسواق، التي حصرت تدخل الدولة في قناة واحدة هي السياسة النقدية، وحددت لها هدفاً واحداً هو مكافحة التضخم، ومنحت السلطات النقدية استقلالاً تاماً عن السلطات الإجرائية، بل حتى التشريعية. أثبتت الأزمة الراهنة أن تركيز الاهتمام على معدلات التضخم وحجم السيولة، كان سبباً رئيسياً لاضطراب الأسواق واستنزاف ملاءتها، إذ تطلب تغيير أسعار الفائدة الأميركية حوالى عشرين مرة في أقل من أربع سنوات، وتسبب في توسيع نطاق الأزمة بدلاً من تهدئتها والحد من تمددها.
رابعاً: إنّنا نجني الآن ثمن زيادة المخاطر الناتج من عولمة المعاملات المالية دون قيود، واتساع الفارق بين حجم الاقتصاد المالي وحجم الاقتصاد الحقيقي، وزيادة الانفصال بين سوقي الإنتاج والمعاملات المالية. فنمو الأسواق المالية بمعزل عن حاجات التمويل الفعلية، ترتب عليه انتقال دفة إدارة الاقتصاد العالمي من أيدي المستثمرين ذوي الأداء المتحسّب للفرص والمخاطر الفعليّة، إلى المدراء الماليين وخبراء الأسواق المرتبط سلوكهم بعالم افتراضي بطيء التفاعل مع العوامل الحقيقية المسيّرة لقوى العرض والطلب.
تضع الأزمة الراهنة السلطات امام خيارين: إما ترك الأسواق تصحّح نفسها بنفسها فتتحمل كلفة التصحيح في آنٍ معاً المؤسسات التي أساءت استخدام مواردها وموجوداتها، وضحايا تلك المؤسسات من مودعين ومستثمرين ومقترضين، فيما ينجو مصممو السياسات العامة بفعلتهم. وإما المزج بين مبادئ المدرستين النقدية والكينزية، فلا يقتصر دور السلطات المعنية في التصحيح على التدخل في أسواق المال، بل يشمل الإنفاق الحكومي وأسواق السلع والخدمات، ما يعيد الترابط بين الاقتصادين المالي والمادي ويؤدي إلى تثبيت التوازنات عند نقطة واحدة.
تزعم الرأسمالية لنفسها القدرة على التجدّد والتكيف، لكن ذلك لا يحصل تلقائياً، ويتطلب خيارات سياسية صحيحة، وتحوّلات فكرية مناسبة. وفي وضعنا الراهن لا يتسنى ذلك دون وضع حدّ للحروب التوسعية، وإعادة النظر بالخيارات المتطرفة التي أوصلت العالم إلى حافة الهاوية، ودفن البقايا السامة لحقبة المحافظين الجدد.