حسن خليل ما يحصل حالياً في الأسواق الماليّة والتطوّرات الطارئة على النظام المصرفي العالمي هو كتابة للتاريخ. فقد لخّصت رئيسة مجلس النوّاب الأميركي، نانسي بيلوسي، مجريات الأمور، بإعلانها أنّ «اللعبة قد انتهت في وول ستريت» (THE GAME IS OVER FOR WALL STREET) وأنّ دافعي الضرائب لن ينتشلوا بعد الآن المصارف الاستثماريّة، هذا يعني بكلام آخر، بداية النهاية لنظام المصارف الاستثماريّة كما شهدناها خلال السنوات الثلاثين الماضية، ويعني أيضاً أنّ المنحى الجديد الذي سيطبع المرحلة المقبلة في تطوّر النظام المصرفي العالمي، هو ولادة مصارف عملاقة تؤدّى تحت مظلّتها جميع العمليّات المصرفيّة الاستثماريّة والتجاريّة.
ومن خلال تقويم الإجراءات التي تتّخذها الحكومات الأوروبيّة والأميركيّة لتعويم مصرف معيّن، أو للضغط من أجل دمجه بمصرف آخر، كما حصل في أهمّ مصرفين أخيراً، وهما «WACHOVIA» و «WASHINGTON MUTUAL»، نرى أنّ الطموح الأقصى لهذه الحكومات هو إيجاد حدّ أدنى من الاستقرار بحيث لا تؤدّي إلى انهيارات لا يمكن وقفها، ما يطيح النظام المصرفي العالمي، وبالتالي يؤدي إلى فقدان قدرة السيطرة على مثل هذا الانهيار، لأنّ النتيجة ستكون فقراً وبطالة وتدميراً للقيمة (DESTRUCTION OF VALUE) وذوباناً للثروة (EROSION OF WEALTH). وأخطر ما في الأمر، حسبما يذكر أحد أساتذة جامعة «MIT» المشهورة، في كتابه عام 1992، «ماذا بعد الرأسماليّة؟»، هو أنّه بعد فشل الشيوعيّة نظاماً اقتصادياً، لم يعد أمام العالم سوى نظام السوق المعتمِد على الرأسماليّة آليّةً للإدارة، فإذا فشلت الرأسماليّة، باعتقاده، فإنّ الفراغ سيكون مخيفاً، وقد يؤدّي إلى حروب عالميّة.
وفي هذا الصدد، عبّر الأمين العام للأمم المتّحدة «المتفائل عادة» بان كي مون، في حديثه أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة الأسبوع الماضي، عن تشاؤمه ممّا يحصل، وقال إنّه عوضاً عن استكمال الدول انفتاحها على بعضها في كنف النظام الدولي، هناك جنوح قوي للانكماش إلى الداخل (INWARD TENDENCIES)، وهذا سيعيد العالم إلى تكتّلات اقتصاديّة إقليميّة تقضي على كلّ ما أنتجته العولمة.
لماذا حصل كلّ ذلك؟ إنّ سرطان العمليّات المصرفيّة هو الإقراض المضاعف، أي «LEVERAGING». ولنأخذ مثالاً على ذلك، فإنّ ثاني أكبر مصرف استثماري في الولايات المتّحدة، «MORGAN STANLEY»، بلغت قيمة مراكز المخاطرة عنده 33 ضعف رأسماله، وليس من العدل القول إنّ كلّ ما كان يحصل هو سوء إدارة أو إهمال، إذ إن الإفراط في الاستدانة أدّى إلى عدم إمكان السيطرة على مسار الأمور حتّى لو كانت الأصول لدى مصرف معيّن «أصولاً سليمة». وفي مثال على ذلك، فإنّ مصرف «LEHMAN BROTHERS»، الذي أعلن إفلاسه في منتصف الشهر الجاري، واشترى أجزاءً منه مصرفا «BARCLAYs» و«NOMURA»، كان رأسماله يبلغ 32 مليار دولار وحجم أصوله 640 مليار دولار. ومعظمها أصول سليمة، غير أنّ الخلل ظهر عندما فُقد إمكان تسعير تلك الأصول أو تقويمها بسبب انهيار الشبكة العنكبوتيّة المصرفيّة، التي هي المصدر الأساسي لتسييل (LIQUIDATION)، تلك الأصول أو تقويمها (MARK TO MARKET).
يبدو أنّ ما سنشهده خلال الفترة اللاحقة، هو إزالة معظم آثار الإقراض المفرط، أي «DELEVERAGING»، ومن هنا يمكننا الجزم بأنّ تلك الأزمة لن تنتهي في المدى المنظور، وأنّ تبعاتها ستظهر خلال سنوات عديدة. وبكلام آخر يتضمّن بعض التفاصيل، يمكن القول إنّه لن يكون هناك في المستقبل إقراض على العقار بأقلّ من 30 في المئة من قيمته في دفعة أولى، ولا تمويل لشركة أو مشروع بأكثر من ضعف الرأسمال، ولا فرصة لشركة أو دولة ذات تصنيف منخفض دون مستوى «BBB» بالولوج إلى السوق للاقتراض، ولا عروض لبطاقات الائتمان بالبريد. وهنا تُطرح أسئلة مهمّة عن نتائج الأزمة الكبيرة التي بانت آثارها إثر انفجار فقاعة الرهون العقاريّة في الولايات المتّحدة، ونشوء أزمة الائتمان بين اللاعبين في الأسواق الماليّة من مؤسّسات ومصارف استثماريّة، ستظهر نتائجها قريباً بصورة ركود عالمي قوي نتيجة انخفاض الثروة وتدنّي الاستهلاك، وبالتالي ارتفاع معدّلات البطالة إلى ما شهدناه في أوخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات.
قد يكون من المضحك أنّ يكون بعض المصرفيّين التقليديّين أوّل «الشامتين» بما حصل، حيث إنّ أهمّ النتائج المتوقّعة هي ظهور مصارف تجاريّة عملاقة، ذات قاعدة ضخمة من الزبائن، يُلجأ إليها للادّخار والعمليّات التقليديّة وتمويل التجارة أو المشاريع أو إدارة المحافظ أو الاقتراض السكني. ولن يكون هناك بعد الآن، مصارف استثماريّة بالمفهوم التقليدي. وسيكون هناك تفكّك وإعادة أموال بالحدّ الأدنى، إن لم يكن انهيار للعديد من المؤسّسات الماليّة وصناديق التحوّط.
أمّا في ما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط عموماً ولبنان تحديداً، فلا بدّ من التنويه في هذا المجال، بأنّ المصارف العربيّة عامّة، واللبنانيّة تحديداً، كانت من الممكن أن تنفذ بجلدها، فهذه المصارف، وخصوصاً التي يديرها مسؤولون مخضرمون، كانت تندّد بتصرّفات المصارف الاستثماريّة العالميّة، وتتفاخر بأنّ العمليّات التقليديّة «المضمونة»، هي الأسلم والأقلّ مخاطرة. ولكن على الرغم من ذلك، انزلقت المصارف العربيّة في الإقراض العقاري غير المعقول، وانزلقت المصارف اللبنانيّة في الإقراض غير المنطقي للدولة، فباتت تلك المصارف نظرياً «محقّة»، ولكن فعلياً «مخطئة» في مكان آخر... وللموضوع تتمّة.
* ناشر «الأخبار» وشريك تنفيذي في «WMG GROUP»