حسمت الحكومة الأمر، وتراجعت عن كل وعودها السابقة، فقررت عدم خفض كلفة الاتصالات الخلوية قريباً، وترك ذلك إلى ما تسميه «المنافسة» المفترضة بين الشركتين اللتين ستفوزان بالرخصتين المعروضتين للبيع بسعر مرتفع يصل إلى 7 مليارات دولار
محمد زبيب
كان وزير الاتصالات جبران باسيل متحمساً لفكرة خفض الأكلاف الضريبية وغير الضريبية، التي تثقل فاتورة الخلوي في لبنان، وتجعلها الأغلى على مستوى المنطقة بلا أي منازع... إلا أن حملة «تهويل» قادها الرئيس فؤاد السنيورة في خضمّ مناقشات البيان الوزاري، دفعت الوزير الجديد إلى التراجع بسرعة، والقبول بعدم مقاربة هذا الملف نهائياً، إلا بعد إنجاز المزايدة المؤجّلة لبيع رخصتي الهاتف الخلوي وموجودات الشركتين القائمتين.
فقطاع الاتصالات، بحسب الرئيس السنيورة، يجسّد مصدر الدخل الأساسي، وشبه الوحيد، للخزينة العامّة بالعملات الأجنبية، إذ تبلغ حصة الخزينة من العائدات المحققة في نهاية العام الماضي حوالى 1678 مليار ليرة (1113 مليون دولار)، منها حوالى 600 مليون دولار من الهاتف الخلوي، وبالتالي فإن خفض الأكلاف «الزائدة»، التي يشكو منها المشتركون، سيؤدّي إلى تراجع قيمة هذه العائدات، وسيؤثّر سلباً على قدرة وزارة المال ومصرف لبنان على تمويل حاجات استهلاكية ونفقات دورية واجبة على الحكومة بالعملات الأجنبية.
كذلك فإن خفض الأكلاف الآن، وقبل بيع رخصتي الهاتف الخلوي، سيُسهم في خفض السعر المستهدف، الذي يتراوح بحسب تقديرات الحكومة السابقة ما بين 5 مليارات و7 مليارات دولار، وبالتالي ستكون الحكومة الحالية عاجزة عن بيع كل المكوّنات الضريبية وشبه الضريبية، التي تمثّل ثلثي فاتورة الخلوي تقريباً، والتي تُعَدّ «التوابل» التي تفتح شهية المستثمرين للاستيلاء على هذا القطاع، وتحثّهم على دفع سعر مرتفع للرخصة، ولا سيما في ظل التزامات رسمية ضمنية بالإبقاء على الطابع الاحتكاري في السوق عبر عرقلة إنشاء شركة «ليبان تليكوم» وتأخير منح الرخص الإضافية التي يمكن أن تفرض المنافسة.

بين الكذب والوقاحة

وجاء تراجع الوزير باسيل، بضغط من حلفائه أيضاً، ليسدل الستارة عن تحرّكات مستمرة منذ عام 2001 وحتى اليوم من أجل خفض الأكلاف، ولو جزئياً، بل جاء أيضاً ليوفّر تغطية سياسية لـ«عقلية الجباية» التي تتحكم بسلوكيات الحكومات المتعاقبة، والتي تنظر إلى قطاع الاتصالات، ليس بوصفه قطاعاً اقتصادياً وتنموياً وحاجة اجتماعية، بل بوصفه إطاراً ضريبياً يوفر مداخيل طائلة للدولة، وهو ما سمح للبعض بإطلاق صفة «نفط لبنان» عليه.
فالحكومات السابقة اضطرت دائماً إلى استخدام «الكذب» في مواجهة التحرّكات المطالبة بخفض الأكلاف، وكانت تتعهد، في كل مناسبة، العمل على دراسة سبل خفض هذه الأكلاف، بل إن الحكومة السابقة، التي لم يكن للمعارضة الثلث المعطّل فيها، تعهّدت في بيانها الوزاري خفض التعرفات «لكي يشكل ذلك رافعةً ومحفزاً للاقتصاد الوطني للاستفادة من المجالات الواسعة التي يتيحها اقتصاد المعرفة، ومن ذلك الإعداد للتعامل مع متطلبات المرحلة المقبلة في مجال خصخصة هذا القطاع الحيوي»، وهذا يعني أن الحكومة السابقة كانت لا تجرؤ على تجاهل حقوق المشتركين، ولو اضطرها ذلك إلى استخدام «الكذب»، فأقرّت بأن خفض التعرفات هو أولوية على بيع الرخص، على عكس الحكومة الحالية التي لم تتوان عن الإعلان بكل «وقاحة» أن الأولوية هي للبيع، باعتبار أن «السير في عملية خصخصة القطاع الخلوي (...) يوفّر أكبر مردود اقتصادي ممكن، ما ينعكس إيجاباً على مصالح المواطنين (...) عبر تحسين التغطية ونوعية الخدمة للمشتركين وتوسيع قاعدتهم وخفض الأعباء عليهم، ويسهم في زيادة القيمة المالية للشبكتين مع التأكيد على مردود عالٍ للخزينة».

المكوّنات الضريبيّة

هذا النص الوارد في البيان الوزاري للحكومة الحالية، يمثّل انتصاراً ساحقاً لـ«عقلية الجباية»، ولا سيما أن اقتراحات أخرى تقدّم بها البعض لإجراء تسوية على النص المذكور، قوبلت بالرفض التام، ومنها اقتراح يرمي إلى تعريف المشترك بأن ما يسدده من كلفة باهظة في فاتورة اتصالاته الخلوية، هو في الواقع ضرائب ومكوّنات شبه ضريبية، وليست أكلافاً لاتصالاته، وذلك عبر تفصيل بنود الفاتورة بوضوح، وجاء الرفض من وزير المال، الذي رأى أن مثل هذا الاقتراح يهدف إلى نقل المعركة مع المشتركين من وزارة الاتصالات إلى وزارة المال.
فالمعروف أن قيمة ثلثي فاتورة المشترك بإحدى شبكتي الهاتف الخلوي لا علاقة لها باستهلاكه للاتصالات الفعلية، بل هي في الواقع ضرائب ورسوم ومكونات شبه ضريبية فُرضت في ظل الاحتكار الممارس في السوق. وبحسب دراسة أُعدّت منذ 3 سنوات، يتبين أن كلفة استهلاك 300 دقيقة تخابر في الشهر تبلغ 117 دولاراً، منها 78 دولاراً هي رسوم ثابتة تجبيها الحكومة عن كل دقيقة تخابر وضريبة على القيمة المضافة واشتراك شهري بقيمة 25 دولاراً وكلفة خدمة إلزامية على الأقل... أمّا في دول أخرى مماثلة للبنان، فإنّ كلفة الفاتورة نفسها لا تتجاوز 40 إلى 45 دولاراً.
وكانت جمعية المستهلك ــ لبنان قد أعدّت مذكّرة إلى الحكومة السابقة بالتعاون مع النقابات المهنية، تفيد بأن المشترك في لبنان يضطر إلى دفع حد أدنى يبلغ 40 دولاراً شهرياً قبل استهلاك أي دقيقة تخابر خلوية، أي 480 دولاراً سنوياً، وأشارت إلى أن متوسط فاتورة الخلوي للمشترك الواحد يبلغ 1320 دولاراً سنوياً في بلد لا يتجاوز الدخل الفردي السنوي 4000 دولار، في حين أن المشترك في فرنسا مثلاً يستطيع أن يستعمل الخط ابتداءً من 1.30 دولار شهرياً!
وما يزيد الطين بلّة أن ثلاثة أرباع المشتركين في الهاتف الخلوي هم من أصحاب البطاقات المدفوعة سلفاً، التي تُعَدّ كلفتها الأعلى في العالم، إذ تبلغ كلفة دقيقة التخابر الواحدة 52 سنتاً، ولا تخدم إلا لشهر واحد (35 يوماً في حد أقصى).


الحرمان من «السيلولار»

تراجعت مساهمة الهاتف الخلوي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، إذ إن معدّل الاختراق في السوق المحلية لا يتجاوز 28 في المئة، وهو الأدنى في المنطقة، وهذا يعني أن ربع اللبنانيين المقيمين فقط تتاح لهم فرصة الولوج إلى شبكة الاتصالات في لبنان... علماً بأن عدد المشتركين لم يرتفع خلال السنوات الستّ الأخيرة إلّا بمعدّل 2 في المئة، فيما ارتفع في الأردن على سبيل المثال (حيث دخل الفرد فيه يعادل نصف الدخل في لبنان) بنسبة 60 في المئة خلال الفترة نفسها.


129 مليون دولار

هو الدخل الفائت سنوياً الذي سينجم عن تنفيذ اقتراحات وزارة الاتصالات لجهة خفض بعض الأكلاف الثانوية بحسب الفرضيات التي اعتمدتها دراسة الوزارة عن الإيرادات الفائتة.