وائل عبد الفتاحثلاث حكايات عن شخصيات عابرة للحدود المصرية. لكل منها تفاصيل معقدة في العلاقة بين السلطة والخارج، بين المال والسياسة، بين الجريمة والنضال. حكايات تشير إلى تحولات، البعض يقول إنها باتجاه سيطرة مافيا الثروات السهلة، والبعض يرى أنها علامات انهيار جعلت أصدقاء الأمس منشقين ودعاة إسقاط النظام

الملياردير والمغنيّة«شغل عصابات»، كما قال سيناريست في أول سنواته الخمسين، أكد أنه ليس من هواة النميمة السياسية. لكنه لم يفهم ما يحدث. «إنها مرحلة جديدة تماماً تتدخل فيها سلطات عليا للتعتيم على تفاصيل جريمة حدثت في دبي». هذه السلطات تمنع «الحقيقة وربما يكون ما قيل عن التخلص من القاتل في السجن حقيقة، وخصوصاً أن لا أحد يعرف أين السجن ولا ما هي الجهة التي تتحفظ عليه، ولم نر صورته كما لم يعلن عن اسمه بالكامل».
خيال السيناريست قفز إلى ما وراء المعلومة الأولى المحيرة الآن في القصة: ما هي قصة هشام طلعت مصطفى، الملياردير المعروف في سوق العقارات والمقرّب من لجنة السياسات (المعروفة باسم لجنة جمال مبارك)؟ ولماذا قفز اسمه في جريمة قتل سوزان تميم؟ وهل لوجود اسم هشام طلعت علاقة بقرار النائب العام في حظر النشر؟
الأسئلة بلا إجابات لأن مصر دولة أسرار. تتسرب التفاصيل والحكايات فيها مثل الأسرار الحربية. مكتومة وأقرب إلى الخيانة الوطنية. دولة مفتونة بصورتها النقية. وحكامها ومشاهيرها يريدون تصوير أنفسهم على أنهم كهنة مقدسون وملائكة تنقصهم أجنحة.
ولهذا، فالشائعة أقوى ألف مرة من الحقيقة. ومهما كانت نتيجة التحقيقات في جريمة ذبح المغنية، فإن الكلام المتناثر حول الانتقام العاطفي واستئجار قاتل لإنهاء أسطورة الجمال المخادع الهارب هو الذي سيبقى لأنه الأقرب إلى الخيال الشعبي. ورغم أن قطاعاً كبيراً من الرأي العام لم يفهم تورط رجل الأعمال بهذه السذاجة، ويراه فصلاً من فصول الحرب القذرة بين رجال أعمال ينتمون إلى الحزب الحاكم، فإن الغرام القاتل بين الملياردير والمغنية سيظل أسطورة يرويها الناس كلما اشتاقوا إلى حكايات مثيرة أو روايات تنتقم لهم من السلطة ورجالها في السياسة والمال.
وقصة تحول هشام طلعت مصطفى من محاسب يدير شركة مقاولات عائلية إلى ملياردير يملك ما يقرب من ٧٠ مليار جنيه، هي بالنسبة إلى شرائح واسعة حكاية خرافية يمكنها تبرير كل الحكايات التالية عن غرامه بالنساء المشهورات (تزوج نجمة السينما المعتزلة نورا لسنوات وعاشت معه كزوجة ثانية) وربطته الحكايات بنجمات أخريات. وهو جزء من مناخ عام يتابع فيه الناس حكاماً تسيطر عليهم شهوة السلطة ورجال أعمال يعيشون في محميات سياسية.
أصحاب الثروات يلهون في الشوارع بسيارات يحميها حراس ويطاردون ملكات جمال الليل ومحترفات بيع المتع متخصصات في صيد أصحاب الثروات. «هذه أجواء مافيا روسية». واللافت أنه في هذه الأجواء يمكن فهم انشغال الناس بمغنية يتعارك عليها ديناصورات المال؛ كيف أصبحت بطلة مانشيتات تعرف الناس كل تفصيل في حياتها ويتحول قتلها من جريمة عاطفية إلى حدث سياسي يتطلب حظر نشر، وكأن هناك من يريد حماية شخص ما متورط في الجريمة أو يسعى إلى التأكيد بأن الشخص الذي تتناوله الشائعات متورط في التحريض على القتل فعلاً أو هي لعبة من ألعاب إلهاء الناس بقصة مثيرة لكي تمر أشياء كبيرة؟
ثلاثة أسباب وربما أكثر لتضخيم قصة الملياردير والمغنية، والتي تشير إلى أن مصر فعلاً نقترب من أجواء المافيا الروسية التي ظلت تمتص الدولة قطعة قطعة، حتى أصبحت هي الدولة تقريباً ولم يعد هناك فرق بين الدولة والعصابة.
وبعيداً عن اتهام المقاول بالتورط في الجريمة، فالمؤكد أنه كانت هناك علاقة بين هشام وسوزان. العلاقة انتهت بجريمة أم كانت سبباً لحشر اسم هشام في الجريمة؟ المهم أن العلاقة تشير إلى خصوصية مصرية جديدة تضاف إلى عالم الثروات العابرة للدول. شركة هشام طلعت مصطفى تنافس شركة «إعمار» الإماراتية وشركات أخرى على مشاريع في مصر ودبي. وأسلحته في المنافسة: ثروة خرافية ونفوذ سياسي وقدرة على الحماية. الارتباط هنا عضوي بين الثروة والسلطة والجنس، فالثروة تحولت من خط سيرها الطبيعي إلى أبراج شاهقة من الأرصدة في المصارف والممتلكات على الأرض. التحول جاء بعد الاقتراب الحميم من السلطة، ثم الاقتراب اكثر وعرض خدمات (هشام عرض شراء جرائد صوتها عال وأهداها لجمال مبارك). وأخيراً اقتراب يجعل المساس باسمه ضرباً للبورصة لتصبح ثروته عبئاً ليس عليه بل على النظام كله.

السجين والمرشَّح



اعتقال أيمن نور بدأ كمشهد قصير في تصفية حسابات، ليأخذ في ما بعد طابعاً جدياً. المحامي الشاب تخطّى «الخطوط الحمر» في لعبة السلطة المغلقة، وانتهى به الأمر الى التحوّل من منافس لحسني مبارك إلى أسير يراسل باراك أوباما

كتب أيمن نور من سجنه رسالة إلى باراك أوباما رأى فيها أنّهما من جيل واحد، وأنّه يدفع ثمن منافسته للرئيس حسني مبارك، وتعطيله لمشروع الخلافة العائلية... فهو «وصيف» مبارك في انتخابات الرئاسة (٢٠٠٥) والبديل المدني الذي ينهي أسطورة أنه «لا بديل للعسكر إلا ابن الرئيس».
لمع أيمن نور في لحظة صعود مجموعة جمال مبارك. رحلة جمال الصاعدة باعتماد عائلي كوّنت حرساً جديداً بلا تاريخ سياسي ورغبة لاحتلال مواقع حرس قديم كان مثل ديناصور يبحث عن طاقم أسنان جديد. نور لم يكن خارج اللعبة، بل أحد عناصرها. واحد من كورس كبير تم اختياره بعناية ليقف في الصفوف الخلفية لنجوم النخبة الحاكمة. ولأن المسرحية أصبحت مملّة بعد انفراد الحزب الوطني بالسلطة وبحق الوجود، وفي ظلّ اكتفاء أحزاب اليمين («الوفد») واليسار (من «التجمع» إلى الناصري) بصفقات ومعاش حكومي، كان لا بدّ من ثورة في الكورس واصطفاء مواهب تصلح لأداء أدوار جديدة.
وكان هذا موعد أيمن نور مع القدر؛ شاب فى أوائل الأربعينيات، يمتلك مهارة ركوب الموجات السياسية. في الجامعة دخل «الوفد» وعرف كيف يصل إلى عقل وقلب الباشا (فؤاد سراج الدين)، بعد سنوات قليلة من وصوله إلى القاهرة آتياً من المنصورة. كان يحمل في حقيبته شطارة من نوع خاص ويقيم علاقة مع أجهزة تدير كواليس السياسة ويشاغب على هوامشها. ليس نور لاعباً تقليدياً، لكنه مميز يوسع العلاقة لتسمح له بحجز مكان لا تغيير أفكار.
في مكتبه صورة لعبد الناصر بجوار صورة لوالده المحامي في مرافعة بالطربوش، وسط رموز من زمن الملكية وصور وتماثيل لملوك عائلة محمد علي... وأمام المكتب العلم المصري.
اختار نور اللون البرتقالي شعاراً حتى قبل أن يتابع تطورات «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا وعلاقتها بسيناريوهات أميركية في تغيير الأنظمة القديمة بشعارات وألوان تكاد تكون واحدة.
تركيبة حزبه كانت أقوى من كل الأحزاب. تركيبة قِيل إنها جاءت لتحكم لا أن تكون جزءاً من ديكور الحزب الوطني. هل تحركت القضية بسبب الخوف من منافسة أيمن نور؟
تصور البعض أنها «قرصة أذن تنتهي»، أو مجرد حساب بين أصدقاء قدامى وعقاب على خطأ (ليس هو المعلن) من شخص مفترض أن يكون حليفاً وعدواً وتابعاً ربما.
لكن أيمن نور ذاق طعم النجاح بعيداً عن عطايا الأجهزة وأراد في لحظة التفكك اللعب منفرداً.
هذا هو سبب الاستفزاز وتحويل الخلاف العادي إلى خطيئة وتحوّل المرشَّح إلى سجين يرسل شكوى إلى مرشح في الدولة الكبرى.

المستشار والجمركيالصورة تقول إن الجمركي يستقوي بالداخل ليفلت من جريمة الفساد ويكشف عن عورات في النظام القضائي المصري. والدكتور تهمته الاستقواء بالخارج، وهو تعبير يعني بالنسبة إلى جمهور واسع تعرّض لعمليات غسيل دماغ واسعة، أنه يقوم بعملية ترويج لدخول الدبابات الأميركية.
صورة ترى البحث عن قوة في مواجهة بطش النظام مجرد ألعاب «طابور خامس» وتحوّل فكرة المطالبة بالديموقراطية إلى عمالة أميركية. أسلوب قديم في الإلهاء، يعتمد على تصوير الديكتاتورية على أنها وطنية في مواجهة العدو الخارجي. والديكتاتور يتعامل بمنطق «شعبي وأنا حر فيه».
إبراهيم كشف في مقال أخير عن أن نظام مبارك حصل «عداً ونقداً من الخارج خلال حكمه على أكثر من مئة مليار دولار» ومعونات بمليارات خلال ربع قرن، شن بها حروباً داخلية متعددة وممتدة ضد إسلاميين في الصعيد وفلاحين في الدلتا وعمال في المحلة الكبري وبدو في سيناء. أي أنهم هم، وليس غيرهم من المصريين، الذين استقووا «بذهب الخارج وسيفه».
فكرة «استقواء» النظام على المجتمع و«استقواء» الفاسدين به مرعبة، وخصوصاً عندما تأتي من مستشار سابق للنظام مثل إبراهيم، وهو صاحب نظرية أثارت ضجة في الثمانينيات كان عنوانها: «تجسير العلاقة بين المثقف والأمير».
اختصرت نظرية التجسير عند سعد الدين إبراهيم في الإعجاب بدور المستشار. اختار أن تؤديه جهات عديدة تملك السلطة والمال: من الأمير حسن الأردني إلى الشيخة سعاد الصباح وحتى الشيخة موزة بنت مبارك، مروراً بالرئيس مبارك. مستشار مودرن في مجتمعات قديمة تملك الثروة والطموح.
وفي مصر كان يقف دائماً في منتصف الطريق. حتى تحوّل فجأة من مستشار للرئيس ومدرس جامعي لعائلته إلى معارض غاضب لمجرد أن النظام قرر الانتقام منه. وفتح ملفاته ليصبح عرضة لأحدث طرق الاستبداد الشرقي: القهر بالقانون.
ورغم هواية سعد الدين إبراهيم بالاقتراب من السلطة، إلا أن انسحاب مستشارين مثله من أروقة قصر الحكم في القاهرة يعني أنه لا بقاء إلا للفاسدين الباحثين عن قوة النظام في مواجهة المجتمع. البقاء للجمركي قاتل العبّارات.