لا زلت أبحث في داخلي عن أشياء كنت قد أخفيتها عني وعن كل الأخرين؛ خبأتها عن أيامي الآتية وعن تحوّلات الزمن، أفتش عن أشياء قد ضاعت مني وما عاد بإمكاني أن أمسك بها وأشياء أخرى قد نسيتها فما عدت أذكرها أبحث عن أجوبة كثيرة لأسئلة لا أجيد صياغتها أو بالأحرى لا أعرفها؛ أنا حفيد اللعنات المقدسة؛ ابن الوجع الرجيم، العالق في متاهتي أؤرخ للزمن بلوعاتي ولا أنشد ملاذاً يسيء إلى جراحي المتعالية؛ أنا الغارق في بقايا أصداء مرح تعتق شجناً، أصعد خيباتي كما يصعد الأبطال منصات التتويج ولا أحني رأسي ورقبتي لأوهام المجد المزيف. هذا أنا تاريخ طويل من المشاعر والانفعالات الغامضة، من الأحلام والكوابيس من الآلام والمباهج المشبوهة، من الوهم والانتظارات غير المجدية؛ تاريخ كامل من الصمت الذي فاتني التدقيق فيه؛ تائهاً بين حواشي ذاكرة الخوف، لهذا ما فتئت أعمل على تجنّب التفكير في افتراضات ما سيكون عليه يومي الجديد هنا، فأنشغل بتجفيف هذا السيلان النازل من عينيَّ وعادة ما ألتجئ إلى حك جلدي في مكان ما من جسدي، فهذا يشغلني على عادات أخرى أسوأ بكثير. كنت أصفّي حسابات قديمة مع نفسي؛ هل بالفعل فقدت الذاكرة والبصر وما عاد بوسعي أن أعمل فكري في أي شيء؛ ماذا أنا؟!
ماحي بِنْبِينْ: بدون عنوان (شمع وأصباغ على خشب، 2022)

صرفت النظر عن الحقيقة ومشتقاتها وتوقفت عن هرولتي في جهات اتضح لي أنها سراب خُلَّبٌ، ألغيت من حساباتي مفهوم الربح والخسارة وعطلت الانفعالات ذات الصلة بالمشاعر العاطفية، وبدا لي أنّ متابعة رتل نمل أهم بكثير من متابعة عته عالم ينتحر بأشد أساليب القتل. كسرت كل ظلالي وأسلمت ‏نفسي لمزاجات حدسي وارتباكات روحي الشاقة، الماء وقد علاه الزيت تزداد عناصره تماسكاً، فيغيب في العمق تاركاً السطح للزيت الفاسد، نتن هذا العالم ورغم ذلك يتقاتل من أجله آكلو لحوم الموتى، من قصبة ضئيلة أحاول الإمساك بمزقة هواء متشرّدة. هكذا أنا الآن وحيد تماماً وكما ينبغي أن أكون بلا رفقة ولا نافذة ولا حتى إشراقة شمس؛ بلا حاجة إلى البكاء ولا حاجة إلى الوهم؛ بلا حاجة إلى فرح مشبوه أو أغنية مرتبة الإيقاع وحيد بلا حاجة إلى هواء مملح وحبّ مستعجل كرغيف لم يحتمل نار الفرن؛ بلا حاجة إلى الوصول ولا ملاذ أوقد فيه ناراً بحطب الأمنيات الكاذبة... وحيد كغابة مجهولة. سوف تخنقني هذه الجدران وعليَّ أن أهشمها وأتحرر من سعالي المكتوم، لم يعد بوسعي أن أحلمَ، ليس لأنني لم أعد أنامُ، فلا شيء يؤرقني فلا وقت لي لذلك، ألا يكفي ما أغمضت عيني؛ الحلم فضيحة، لست واهماً، أريد أن أتخلّص من كل ظلالي التي تحاصرني، فلا ظل لي ولست ظلاً لأحد؛ وكل ما أحتاج إليه الآن أن أتخلص من أثقالي القديمة وتلك التي سوف تأتي، ورغم ذلك ما زلت حبيس غصّتي محاصراً بظلال تشدني إليها من كل مفاصلي؛ هل لا زلت مكبلاً أعمى أخبط رأسي على هذه الجدران الرطبة التي ما انفكت تحاصرني، وهذا السقف «الواطي» الذي يخنق أنفاسي، فلا يمنحني قدرة الإمساك بآهاتي؛ يحبسني مقهوراً في تنهيدتي الكتيمة؛ يجرحني دمعي الثقيل ولا أستطيع البكاء.
- يا سليمان يا ولد الحلال.
بالأمس فقط عرفت اسم سجّاني، تبادلنا كلمتين أو أكثر يبدو أنه ساذج ومغفل، عليَّ أن أستدرجه للحديث، هكذا على الأقل لن أصير أبكم أيضاً، فمنذ أن ألقوا بي هنا في هذا القبو المظلم، لم أخاطب أحداً وصرت أتكلم وحدي وأهذي خشية أن أفقد عادة التكلم فأبتلع لساني. فقدت حاسة الشم وما عدت أتبيّن الروائح الكريهة من تلك الطيبة، فلا رائحة هنا سوى رائحة البراز والبول والجدران الزنخة. فقدت الإحساس بالزمن، فلا وقت لي سوى هذه العتمة التي تتسع من حولي سواداً مدلهماً، بالكاد أتحسّس الأشياء من حولي: هذه محفظتي التي أسند عليها رأسي ولا شيء فيها سوى ما تبقّى من بعض دواء لعيني. لا أكاد أعرف كيف ألمس الأشياء المحيطة بي، فأصابعي تخشّبت وريقي جف.
يتمُّ في الحبس إشباع الذات وتعبئتها بما هو مرفوض وممنوع؛ بكل ما هو مكبوت وإحياء المدفون داخل الذات ثم إعادة تأهيله، البروز مجدداً عند معانقة الحرية. الشجن محطة انتظار يتم فيها تعهّد دواعي المنع من البلى؛ ففيه حرية هي أخطر من الحرية خارجه، ليس ثمة ضوابط داخل الأسوار، فالسجين المضطهد والمقموع سوف يبحث عن كل الأشياء الباقية ليقاوم حالات اندثاره عبر التشبث بتلك الأسباب التي من أجلها أودع السجن، حيث تتاح الفرصة من أجل بروز نوع من الرهبنة الانتقامية التي تأخذ في التشكل عبر تنامي الشعور بالاضطهاد، ومن الآخر الجلاد الذي عليه أن يدفع كل فواتير هذا الكبت المضاعف. إن السجين في آخر الأمر هو ضحية إحساسه بأنه ضحية مزدوجة: ضحية الجلاد وضحية نفسه، وعليه فهو حالما يستعيد حريته، ينتقم من نفسه عبر الإجهاد على ذلك الجلّاد الذي حبسه في ذات مقصرة.
_ شربة ماء.
_ هل أفرغت طستك بهذه السرعة؟
_ إنني أحتاج إلى الكثير منه، أنت تعرف أنني عليل.
_ سكِّر فمك.
أعرف جيداً إن الأمر شبه مستحيل وأعرف أنه لا بد من إحكام ترتيب الخطة حتى لا يتكرر معي ما حدث مع علي الصوفي في بيتي في تونس، أوووه لا أريد أن أتذكر تلك المصيبة، فلئن كنت نجوت وقتها، فالآن لن تقوم لي قائمة بعد اليوم وسوف تُقطع رأسي، آه يا رأسي.
أشعر كما لو أن دبيب نمل يَصَّاعَدُ مع عمودي الفقري من أسفل ظهري إلى أعلاه؛ ترتجف يدي اليسرى وأفشل في التحكم فيها كما أشعر بانقباض عضلات ساقي وأفقد القدرة على تمالك توازني، أَتَّكِئُ على الجدار ويزداد اضطرابي أحاول أن أشد رأسي الذي توجعني تصدعاته، أريد أن أخبطه على حجارة هذا الجدار فأصرخ ويمتلئ فمي رغوةً، أخبط بيدي فيما حولي وأنهار على الأرض. سمعت السجّان يصرخ في وجهي وقد رشه بالماء:
_ هاو الماء.
_ رحم الله والدك البيَّاس وطيَّب ثراه وأطال في عمرك وثبَّت أجرك.
_ كفَّ عن التذمر الآن واتركني لشأني.
_ لا تذهب الآن، أرجوك. أكمل معروفك. أرجوك أيها البطل.
_ ماذا تريد؟ قل وأعفني من توسلاتك.
_ سوف يأتيني صاحبي محمد غدا بقنينة دواء.
_ حسناً، سوف آتيك بها.
_ اتركه يدخل، فهو يعرف تطبيبي بها، سأكون شاكراً لك هذا المعروف.
_ لا؛ مولاي. صاحب السجن يمنع ذلك.
_ يا سليمان، فإنما أنا إنسان عاجز ولا حول لي، ومحمد مجرد شخص أعزل لن يفعل سوى تدريبي على استعمال الدواء.
_ قلت لا.
_ إن فعلت فإنما تنقذ عليلاً من آلام سقمه وإن رأيت عكس ذلك فلك ما تشاء.
يبدو أنه أخلى المكان ومضى؛ ولا حيلة لي أخرى سوى أن ينقذني صاحبي محمد من هذا الحبس اللعين.

(*) فصل من رواية صدرت حديثاً عن «دار زينب» في تونس العاصمة.