نظريّات مؤامرة لحريق مجلس الشورى وشماتة وليدة القهروائل عبد الفتاح
«هاتولع»، صرخة اخترقت المتابعين لصور حريق مجلس الشورى في الصحف. الرجل لم يكن مجنوناً. على العكس، هو من النوع الهادئ. انفعالاته نادرة. ويبدو رغم الأسى المرسوم على وجهه مستسلماً بشكل ما إلى ما يتصور أنه قدر. لكن الحريق ألهمه فكرة عبّر عنها في صيحة تمزج الألم والأسى بنوع غريب من الشماتة. رمز من رموز الدولة يحترق، وفي قلب العاصمة. وكل أجهزة الدفاع المدني تفشل في الإطفاء، حتى بمساعدة الجيش وفرق البترول المدربة على هذا النوع من الحرائق. علامات إهمال وعجز ولامبالاة مجتمعة. هل هذا سر الصرخة المشبعة بسخرية فوارة أعلن صاحبها حزنه عندما اكتشف أن المبنى كان خالياً من النواب أو من واحد من كبار النظام أو وزراء الحكومة؟
روح الشماتة هذه مرعبة، لأنها إعلان قوي أن المصريين لا يشعرون بأن البلد بلدهم، ولا التاريخ الذي يمثله المبنى يخصهم. حالة اغتراب حارقة لا تفرق بين الانتقام من الحكومة ورجالها واحتراق رمز رحلة ٢٠٠ سنة إلى الدولة الحديثة. روح الشماتة تربّت في ظل قهر طويل وشعور بالعجز والمهانة. هي إنانية مضادة رأت أن التهام النيران لمجلس الشورى هو عدالة السماء.
الشماتة هي دليل الشعب الضعيف العاجز الذي تقتل فيه الأنظمة الروح وتطحن الوعي وتتركه مثل الوحش الجريح. يشعر بالذل وراء القفص لا يملك سوى الدعاء وتمني الهلاك من القوى العليا.
روح الشماتة صاحبتها عقلية المؤامرة، التي اعتقدت أن الحريق مدبر من أجل إخفاء أوراق ملفات مهمة أو من أجل بيع الأرض لمستثمر مفتون بجمال وسط القاهرة. البعض ذهب بعيداً وقال إنه تمرين متعمد لحريق القاهرة الثاني (الأول كان في كانون الثاني ١٩٥٢). التمرين هدفه اختبار رد الفعل على أحداث مرسومة في سيناريو خفي جاهز للتطبيق.
تخيُّل المؤامرت يعمل أوتوماتيكياً في المصائب والكوارث الكبرى، ويشير إلى عدم تصديق الروايات الرسمية والشعور بأن هناك شيئاً سرياً يجري في الخفاء وأن أصحاب الأمر والنهي ليسوا بعيدين عن مستوى الشبهات وأنهم شركاء في الجرائم. هكذا لم يعد النظام ولا الشعب يدرك أن مصر دولة حكايتها كبيرة. عاشت صراعات في السياسة، استقلالاً عن الإمبراطورية المريضة في إسطنبول، ثم عن احتلال الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. هذه وثائق احترقت الآن، واحترقت معها القاعة التي شهدت ولادة دستور ١٩٢٣. أول شهادة ميلاد نظام سياسي حديث في مصر. دستور أكثر ديموقراطية من الدستور الذي فُصل من سنتين ليستمر نظام حسني مبارك وخليفته إلى الأبد. والمعنى الكبير هو أن النظام لا يؤمن بأن شرعيته من الدستور، وإلا ما كان قد ترك مبنى الشورى وقاعة الدستور يحترقان لأن صفوت الشريف أراد من أجل إعلان سطوته وضع مكياج على المبني (تكلف ما يقارب ١٠ ملايين دولار)، بدلاً من وضع نظام صيانة محترم يحمي المبنى بكل ما يحمله من رموز لا يحترمونها. لكن كيف والنظام لا يحترم تاريخه؟ إنه نظام وليد صدفة، يحرق الآن إنجازات عصور كانت مصر فيها مختلفة. ليست أجمل ولا أقوى ولا ست البلاد أو أم الدنيا. كانت دولة في طريق نهضة على النموذج الأوروبي.
رموز تحولت إلى أطلال على يد آخر سلالة من أنظمة ورثت مصر تباعاً من ليلة وصول جنرالات التحرر الوطني. وإلى الآن صور مجلس الشورى بعد الحريق هي أطلال مصر الحديثة، بالضبط كما كان حريق دار الأوبرا في سنة 1971 بداية النهاية لعصر من ثقافة رفيعة المستوى عرفتها مصر في الأربعينيات والخمسينيات وأحرقتها ثقافة النهب، التي بدأت في السبعينيات ظاهرة صغيرة، لكنها أصبحت الأسلوب المعتمد. ثقافة اللصوص الذين افتتحوا نشاطهم في السبعينيات أصبحوا الآن ملوك وأمراء يحتكرون السلطة والثروة ويتحكمون بالسلاح في مصير بلد يعيش سنوات اليأس الكبري.
النظام أقوى من الزمن، يستمر حكامه سنوات طويلة تحت رعاية طبية فائقة، يختارونها من الخارج، بينما الشعب، الذي يدفع تكاليف إقامتهم في القصور الفخمة، يدخل المستشفيات ليموت، والمدارس ليزداد جهلاً، وأماكن العمل ليصبح عاطلاً. لماذا يتقدم الحكام، بينما الناس يزدادون فقراً ومرضاً وجهلاً؟
حريق مجلس الشورى تمرين مرعب لحالة انتحار جماعي. انتحار ابن اليأس وعدم الشعور بالثقة في أننا أصحاب البلد، هي بلد الحكومة، وعليه نسير عكس اتجاه الشوارع ونخطط للغش الجماعي في الامتحانات. الاغتراب ارتفعت معدلاته وتحول إلى انتقام وشهوانية وعنف يومي.
الجوع والحرمان والكبت ثلاثية حولت المصريين إلى وحوش تتعارك يومياً معاً، وتحطم ما صنعته تراكمات الأجيال. وحوش بلا عقل يتصورون أن مبنى الشورى مجرد قاعة مؤامرات تدبر ضد الشعب.
الحريق خسارة أكبر من 30 مليون دولار، إنه بروفة جحيم قادم في مصر.