1- الأم الراحلةالرّفوةُ في ساقِ بنطاليَ القديم
بقيتْ إرثاً حيّاً
ليديكِ الماهرتين بخياطةِ
التّمزّقات الصغيرة
التي غالباً ما تفاجئنا في الملابس التي نُحبّ!

سوق العطَّارين في القدس (منظمة التحرير الفلسطينية ــــ دائرة شؤون القدس ـــــ 2015)


كنتِ جالسةً أمام نافذةٍ مُشرَعة
على هواءٍ أليف... يأتي من بحرٍ لم يعد لنا
تمرّرين الخيطَ في ثقب الإبرة
بيدٍ خفيفةٍ ترتعش

وتتحدّثين بصوتٍ متعب
تسمعه مرّةً
فيُسَكّن الجسدَ إلى الأبد

كم استغرقتُ في النظرِ إليكِ
بأنفاسٍ طويلة
وبعينين واسعتين
تعانقان الوقت....
الذي كان يأتي وقع خطاه
من ساعةِ الحائطِ القديمة

ولم يكن هذا كافياً
مرّ مثل أيّ وقتٍ مضى
حتى بسرعة أكبر!

الرّفوةُ في البنطال القديم
ظلّت مثل توقيعٍ شخصيٍّ
من خيوطٍ بِيضٍ
تتعانق في ما بينها...

مثل ذكرى قديمة
تنبضُ في قماشٍ مهترئ
مطويٍّ بعناية
على رفّ الخزانةِ البعيد عن متناول اليد!

2- العثور على القدس
ستظلّ تشتهي نزهةً قصيرةً
في دربِ الآلام
جولةً صباحيّة في سوقِ العطّارين،
إنّها أمنية تنكسرُ أمامكَ
في كلّ مرّةٍ
وتلاحقكَ شظاياها في كلّ مكان.

لم تشرب كأساً على جبل الزيتون
احتفاءً بإطلالةٍ شاهقةْ
على أحراشٍ وقرى من حجر التلال
وتاريخٍ مُمتدّ
تبحثُ فيه جاهداً عن موطئ قدم!

أو ترى وجهكَ في مرآة مُعلّقة
على فترينة دكّانٍ
أو في بقعة ماءٍ على الأرض
قبل أن تجفّ...

لم يحتوِكَ سوقُها المسقوف
وتتعثّر في أزقّته
أو تسند ظهركَ برهةً إلى جدرانه

ليس لديكَ مقهى هناك
تعتاد الاختفاء فيه
أو شارع أثير تتهادى على بلاطه الكبير

لا تحملُ مشهداً يتيماً
من هناك
يهبُّ عليكَ في أوقات الفراغ
دون أن تعرف السبب

لم تدخلها بطمأنينةِ سائح
في عطلة صيف
أو مؤمن يرنو للقاء الربّ وجهاً لوجه
ولم تدخلها كابن مدينة
باحثاً عن تاريخكِ بين القِباب
وتحت جدران مهدّمة!

لكنكَ تجوبُ مدنَ الآخرين حرّاً
ترتشفُ الماء من نوافيرها
فاغراً فمكَ
أمام تماثيل وأضرحة
وآثار نهضت كاملة من حفر سحيقة
تستعرضُ مفاتنها مجّاناً
كأنها أضحتْ لبُرهةٍ لكْ!

3- دَعَسات في شارعٍ ضيق
البلدُ الذي تضاءل مثل غيمة صيفٍ
سيتناثرُ عمّا قريب
مخلّفاً بقعاً صغيرة على الخريطة!

ستعضّ أطرافه بأسنانك مليّاً
بأظافركَ النابية
وتشدّه إلى عظام القفص الصدري

علّه يتسع لرقصةٍ جماعيّةٍ
لمشوارٍ صباحيٍ بحثاً عن الأوكسجين
أو لسباقٍ رياضيٍّ مُرتَجل

علّه يكفي لدرس سَوْقٍ
لدعسة بنزين جريئة...
أو لزيارة جبليّة في ربيع قادم

البلدُ الذي سيتلاشى من تحتِ قدميك
كحفنةِ ترابٍ في الهواء
ستزرعه بأشجار زيتون جديدة
وبتلات لوز وخرّوب
لتذهب في التراب عميقا!

لكن لن تجد اسمه في القواميس
ولا في دليل السفر
ستجده في سجلّات قديمة
صور على الحائط
بأسماءٍ ورموزٍ لا يتداولها أحد.

البلدُ الذي تحفظ صفاته
كسمات الجلالة
وتعرف حتى طُرُقَه الترابيّة
ويبدو أليفاً لكَ مثل وجه أطفالك
سيتبدّد مثل غبارٍ صامت

أو سيراوح بالأحرى مكانه
ليظهر لكَ بتضاريس جديدة
رُسِمت على شاشةٍ
في مكتبٍ بعيد!

(*) من ديوان بالعنوان نفسه صدر حديثاً عن «دار النهضة العربيّة» في بيروت.

(**): شاعر فلسطينيّ من مواليد قلقيليّة، يقيم في باريس. يكتب مقالات في الصحف الأدبيّة وبحوثاً أكاديميّة باللغتين العربيّة والفرنسيّة. عمل مع موسيقيين فلسطينيين وعرب، منهم الموسيقي محمد نجم، ولُحّنت عددٌ من قصائده. وعمل مديراً فنيّاً لمهرجان شعريّ بالتعاون بين المركز الثقافيّ الفلسطينيّ وبين «معهد العالم العربي» و«بيت الشعر الفرنسيّ» في باريس. يعمل حالياً مُحاضِراً جامعيّاً، ومسؤولاً عن قسم اللغات الساميّة في مكتبة جامعة باريس الثامنة.