عبد الحليم فضل اللهكيف يمكن تمويل التأمينات الاجتماعية وشبكات الحماية على نحو يكفل لها الاستدامة؟ هذا السؤال هو بمثابة الجذع المشترك لشجرة من الأسئلة: ما مدى ضيق دائرة العطاءات الاجتماعية أو اتساعها، التي يفترضها مجتمع لنفسه؟ من هم المشمولون بهذه العطاءات؟ وهل المدفوعات الاجتماعية ذات طابع تعاقدي فهي إذاً مرتبطة بمستوى المساهمة في إنتاج الدخل، أم إنها من الحقوق الأساسية فلا مناص من تلبيتها بمعزل عن شروط السوق؟ هذه الأسئلة هي نفسها التي رافقت نشوء سياسات الحماية الاجتماعية وانتشارها في النصف الثاني من القرن الماضي بالمعنى الذي أسس له لودفيغ أرهارد، أول وزير اقتصاد ألماني بعد الحرب العالمية الثانية، قاصداً جعل ألمانيا دولة رائدة للتكافل الاجتماعي، لكن السؤال الراهن الذي يعد بانبعاث جديد لفلسفة التكافل هو التالي: إذا كان تحقيق أهداف الحماية الاجتماعية يفترض رعاية الفئات الأقل مساهمة في الإنتاج، والعاجزة من ثم عن تحقيق مستوى من الادخار الترسملي الكافي لمواجهة المخاطر المستقبلية، أليس من الأجدى اللجوء إلى الضرائب لتمويل نظام تأمينات شامل لجميع المواطنين بدلاً من الاعتماد على الاقتطاعات المباشرة من الأجور، مضافةً إليها مساهمات أرباب العمل؟
هذه الإشكالية هي جزء من تبعات الانقسام الاجتماعي الناتج من تصدع دولة الرفاه، فالمنهج الليبرالي المحدث قلب رأس نظام إعادة التوزيع على رأسه، مخلياً ذمة الفئات المتلقية أعلى حصة من الموارد من مسؤولياتها الاجتماعية، بل جعلها في موقع الدائن للفئات الأخرى التي تقع في مراتب أدنى، فصار تناقص حصة اليد العاملة من القيمة المضافة مؤشراً على الترقي في سلّم النمو والتحديث، وغدا تقديم فروض الطاعة للشركات المحلية الكبرى تصرّفاً حكيماً لثنيها عن مغادرة البلاد. وبحسب دراسة نشرتها مؤسسة فريدريتش ايبرت، يتبين أن الأنظمة الضريبية فقدت في ظل طفرة العولمة ميزاتها التوزيعية، وباتت أقساط التأمين الصحي والاجتماعي تثقل كاهل ذوي الدخل المحدود أكثر بكثير من سواهم، وخلال ربع قرن تضاعفت قيمة الضرائب المقتطعة من الأجراء الأوروبيين ثلاث مرات، لتكوّن حوالى ثلث الإيرادات الضريبية الإجمالية، فيما انخفضت نسبة مساهمة الشركات إلى أقل من النصف. وفي الوقت الذي كان العبء الضريبي يزيد من ضغطه على القوى العاملة، كانت هذه الأخيرة تفقد تدريجياً حصتها من الناتج العالمي، مفسحة الطريق أمام أسوأ توزيع للمداخيل عرفه العالم منذ عقود طويلة.
لقد تسببت سيولة النظام الاقتصادي الدولي القائم على تحرير انتقائي، في ابتلاع مكاسب راكمها العمال عبر نضال طويل، والخشية هي أن يقود ذلك إلى تداعي أنظمة الحماية الاجتماعية القائمة حالياً التي يتقاسم الأجراء وأرباب العمل تمويلها. فيما القوة التفاوضية للشركات الكبرى التي تمثل عصب المنافسة العالمية في تصاعد، والقوة التفاوضية للحكومات والنقابات العمالية في تدهور. وفي ظل تراجع قدرة العاملين بأجر على تحمّل أقساط تأمين عالية، فقد بتنا قريبين من النقطة التي قد ينهار عندها النظام التقليدي المعتمد لتمويل أنظمة الحماية، ما لم يُعثر على بدائل واقعية، أي إنها تراعي شروط الأسواق الدولية، وفعالة أي إنها تساعد على بناء أنظمة تكافل مستدامة.
هناك بدائل مطروحة ومطبقة، لكنّ أكثرها جسارة هو ذلك الذي يهدف إلى إعفاء العمال وأرباب العمل من أعباء المدفوعات التحويلية، واستبدالها بتمويل مغطى بالضريبة المباشرة، والهدف هو مشاركة جميع أنواع الدخول في تمويل هذه العملية التي يستفيد منها كل الشرائح بمعزل عن مستوى مساهمتها في الإنتاج. وبما أن تطبيق هذه الحلول دفعة واحدة قد يؤدي إلى مضاعفة الضرائب وهروب الرساميل في سوق عالمية تتسم بالانفتاح والمنافسة الشديدة، فإن الاعتماد على تمويل مزدوج من الضرائب ومن حسابات ادخار فردية تكميليّة هو الأفضل، وخصوصاً بالنسبة إلى الدول التي تخشى تقويض مركزها التجاري بين الدول.
بيد أنّ العديد من البلدان مثل الولايات المتحدة وسويسرا والدنمرك وإنكلترا والسويد والبرازيل.. تعتمد جزئياً أو كلياً على الضرائب في تأمين موازنة الرعاية الاجتماعية من دون أن تتأثر مزاياها التنافسية. ففي الولايات المتحدة الأميركية يُموّل القسم الأكبر من نظام التأمينات الاجتماعية المكوّن من سبعة فروع، بالضرائب على الدخل والمعاشات، وتقترح الموازنة الفدرالية لعام 2009 تخصيص 645 مليار دولار للتأمين الاجتماعي و420 ملياراً للرعاية الصحية، أي ما يساوي 34% من مجموع الموازنة. وتطبق سويسرا نظاماً للتأمين والحماية يشمل أربع فئات، ممولاً بصورة أساسية من الضرائب ومن اقتطاعات لا تتجاوز نسبتها 10% من الدخل، موزّعة مناصفة بين العامل ورب العمل. هذا في ظلّ نظلم ضريبي تكافلي الطابع، حيث تساهم الطبقة الغنية بسويسرا في تمويل الخزينة بأكثر من ثلاث مرات من حجم مساهمة الطبقة الوسطى، وسبع مرات مقارنة بذوي الدخل المحدود.
إن تطوير طرق تمويل المدفوعات التحويلية في البلدان النامية أمر لا مفرّ منه، مهما كانت أوضاعها المالية والاقتصادية، فالنظم التقليدية لن تقوى على الصمود في أسواق عالمية خالية من القواعد، وفي ظل حكومات جُرّدت من أدوات التأثير اللازمة لمواجهة الانهيارات الاجتماعية التي تهدد خصوصاً الدول الهشّة، وإذا كان هناك خوف مشروع من أن يؤدي تعميم الضمانات الاجتماعية الممولة من الموازنات العامة، إلى تضخيم التكاليف وزيادة معدلات الضريبة، فإن بقاء الأوضاع على حالها يرتّب تكاليف مضاعفة غير منظورة، تُجبى عشوائياً من شرائح لا تقوى على تحملها، ولا تعي أنها تسدّد فواتير قصور الأنظمة المخصصة أصلاً لحمايتها.