تحولت قضية رد القاهرة على ذبح تنظيم «داعش» لعدد من الأقباط المصريين إلى كاشفة لإعادة التموضع في المنطقة بعد الانقلاب الناعم في السعودية. فمنذ تولّي الملك سلمان زمام الأمور وتغييره جزءاً كبيراً من تركة أخيه عبدالله، تصاعد الحديث عن تأثر قريب في العلاقة بين الرياض والقاهرة، زاد عليه التسريبات التي تعمّدت جهات مقرّبة من جماعة الإخوان المسلمين إخراجها في الوقت القريب الماضي لخدمة فكرة «استحقار عبد الفتاح السيسي للخليج».
رغم ما سبق، لا يمكن البناء على أن السعودية بطاقم عملها الجديد ترغب في تغيير سياستها الداعمة لمصر. ولكنها في المقابل لا تريد للأخيرة أن تكون «ترمومتر» العلاقات الخليجية الداخلية، وخاصة ما بين الرياض والدوحة. يمكن استنتاج أن ثمة ترويضاً سياسياً قررت المملكة الخليجية الكبرى ممارسته، فجاءت أزمة السيسي في ليبيا لتظهر المدى الذي ستذهب إليه سياسة السعودية الجديدة في المنطقة.
شدّد السيسي على أن جيشه لم يقصف أهدافاً مدنية في ليبيا

وبعدما كان الانتقاد المصري لقطر مفتوحاً بحكم التوترات الإعلامية، خرج مجلس التعاون الخليجي أمس ليرفض «الاتهامات المصرية للدوحة بدعم الإرهاب». وقال الأمين العام لمجلس التعاون، البحريني عبد اللطيف الزياني، إن «الاتهامات المصرية (خلال جلسة للجامعة العربية) باطلة وتجافي الحقيقة وتتجاهل الجهود المخلصة التي تبذلها دولة قطر مع شقيقاتها في دول مجلس التعاون لمكافحة الإرهاب على جميع المستويات».
وإن كان مبكراً تقدير أن هذا الحديث سيكون فاتحة لشرخ في العلاقة المصرية ـ السعودية، فإن من المهم الالتفات إلى الموقف الإماراتي الذي ساند منذ اللحظة الأولى لذبح الأقباط العمليات العسكرية المصرية، امتداداً لسياسة إماراتية أكثر ثباتاً تجاه القاهرة. ومع أن صدور بيان من مجلس التعاون يعني إقرار الدول الست به، فإنه لن يكون مؤشراً على طبيعة الموقف الإماراتي الحقيقي.
هكذا يظهر أن الفرصة التي لاحت للسيسي في ليبيا من أجل استغلالها داخلياً وخارجياً لتعزيز وجود نظامه ودوره قد لا تؤتي أكلها؛ فصحيح أنه استثمر الموقف لتمرير عدة أوامر منها نشر الجيش في محافظات الجمهورية كلها، وصحيح أنه قد يكون استعاد جزءاً كبيراً من شعبيته، لكنه من حيث يدري أو لا يدري يزيد احتقان التيارات الإسلامية التي لا تخفي تعاطفها مع «داعش»، ثم جاء إخفاق طاقمه الدبلوماسي في إقناع أكثر الدول قرباً منه بضرورة العمل العسكري في ليبيا.
إشارة أخرى يمكن التقاطها في سياق التوتر المصري ـ السعودي الناشئ، إذ إن اللقاءات بين الطرفين في المملكة لن تكون في هذه الأوقات مناسبةً لتبادل الودّ. فقد استقبل وليّ وليّ العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف (الأربعاء)، في الرياض، سفير مصر لدى السعودية، عفيفي عبد الوهاب، وذلك بعد يوم واحد من مباحثات بين ابن نايف وأمير قطر تميم بن حمد، خلال زيارة الأخير للسعودية التي التقى فيها الملك سلمان. أيضاً هو ثاني لقاء يجمع ابن نايف وابن حمد في نحو أسبوع.
أما القطريون فصعّدوا مواقفهم في الأيام الماضية على أكثر من مستوى، إذ استدعت الدوحة أمس سفيرها لدى مصر «للتشاور» على خلفية تصريح أدلى به مندوب مصر لدى الجامعة العربية، واتهم فيه قطر بـ«دعم الإرهاب». وهو ما ردّت عليه بقولها إنه «تصريح موتور ويخلط بين ضرورة مكافحة الإرهاب وبين قتل وحرق المدنيين بطريقة همجية». كذلك ذكر البيان القطري أن الدوحة تتحفظ على دعوة الجامعة العربية إلى رفع الحظر الدولي المفروض على إرسال أسلحة إلى ليبيا، معللة هذا الموقف برفضها «تقوية طرف على حساب طرف آخر قبل نهاية الحوار وتشكيل حكومة وحدة وطنية».
في سياق متصل، وصف وزير خارجية قطر، خالد العطية، اتهام الرئيس المصري المعزول محمد مرسي بالتخابر مع بلاده بأنه «كارثة»، مؤكداً أن الدوحة «لا تدعم الإخوان المسلمين»، ومشيراً في الوقت نفسه إلى أنه حتى اليوم «هناك ودائع قطرية في الاقتصاد المصري».
على الجانب المصري، فإن مندوب القاهرة الدائم لدى الجامعة العربية، طارق عادل، قال إن موقف بلاده جاء رداً على تحفّظ الدوحة على بند يؤكد «حق مصر في الدفاع الشرعي عن نفسها وتوجيه ضربات للمنظمات الإرهابية». وأضاف عادل: «وفقاً لقراءتنا في مصر لهذا التحفظ القطري، فإنه بات واضحاً أن قطر كشفت عن موقفها الداعم للإرهاب». لكن مصادر دبلوماسية مصرية عبّرت عن «اعتذار مبطن» عمّا قاله مندوبها، مشيرة إلى أن البيان الخليجي المشترك «لا يعبّر عن تغيّر في موقف تلك الدول من مصر، لأنه يأتي بسبب التصريح غير الدقيق من المندوب المصري في الجامعة العربية». وأكدت المصادر لـ«الأخبار» أن الأمر «لا يتجاوز سوء التفاهم الذي سيجري تداركه سريعاً في غضون أيام، وخاصة مع عودة السفير القطري من الدوحة قبل نهاية الشهر الجاري»، موضحة أن سفير قطر لدى القاهرة موجود أصلاً في الدوحة حيث يقضي إجازته السنوية، والموجود حالياً هو القائم بالأعمال ياسر عوض الذي حضر في اجتماع الجامعة، وحالة استدعاء السفير سياسياً ليست مثل سحبه.
وبشأن الحديث القطري عن استهداف المدنيين في ليبيا، فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ردّ قبل يومين بأن جيشه «لم يصب أي أهداف مدنية في ليبيا». ولكن ما قد يعطي للقاهرة مجالاً للمناورة أن الخلاف لا يزال قائماً في مجلس الأمن على قضية السماح بتوريد أسلحة إلى حكومة عبدالله الثني في ليبيا التي تتواصل معها القاهرة وأيضاً مع اللواء العسكري خليفة حفتر، وهو ما يعني أن الحرب المصرية ضد «داعش» هناك ستكون بيد ليبية لو أفلح الحشد في التصويت على مشروع القرار الذي تقدم به الأردن نيابة عن الدول العربية.
دعم سياسي آخر تلقته القاهرة عبر قول المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، إنه توجد إمكانية لمشاركة بلاده في تحالف دولي ضد «الإرهابيين في ليبيا»، بما في ذلك تأمين حصار بحري لمنع وصول الأسلحة إليهم. وقال تشوركين: «روسيا شاركت في عملية قرب سواحل الصومال، فلماذا لا تتمكن من المشاركة في عملية في البحر المتوسط؟»، وهو موقف يخالف التوجه الأميركي في التحالف الذي شُكّل للقصف في العراق وسوريا.