غالب أبو مصلحيخلط معظمهم بين النموّ والتنمية رغم الفرق الشاسع بينهما. يقصد بالنمو ارتفاع الناتج المحلي أو القيمة المضافة، أما التنمية فلها مفهوم آخر مثل خفض نسبة الفقراء ومعدل البطالة وتضييق الفروق الطبقية، إلخ... أي إن التنمية تقاس بتحسين الوضع الحياتي والبيئة التي يعيش فيها الإنسان. إن تحقيق النمو عبر قطاع اقتصادي محدد، وتهميش بقية القطاعات، وعبر إعادة توزيع الناتج المحلي لمصلحة رؤوس الأموال وأصحاب الثروات على حساب معظم القوى العاملة... لا ينتج إلا التخلّف والمزيد من التفاوت في المداخيل ويعرّض السلم الأهلي للاهتزاز.
وتتأثر التنمية بنشاط وتوجهات السلطات المحلية والجمعيات غير الحكومية، ولكن العامل الأساسي والمقرر يبقى للسياسات الكلية التي يتبعها النظام، والتي تعبّر حكماً عن مصالح الطبقات الحاكمة... فالسياسات المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية تصنع بيئة العمل المؤاتية للتنمية أو الكابحة لها. فمثلاً تقوم السياسات الضرائبية في لبنان بتركيز العبء الضريبي على عاتق الفقراء ومحدودي الدخل عبر الضرائب غير المباشرة التي تمثل 80% من الضخ الضريبي، فيما الضرائب المباشرة تقل عن 20%، كما إن سياسات السوق المفتوحة لتدفق السلع الزراعية والصناعية المعان معظمها، يشكل إغراقاً للسوق المحلية مع تراجع القدرات التنافسية للإنتاج اللبناني. وهذه السياسة هي لمصلحة التجار وأصحاب الوكالات الحصرية، وضد مصالح قطاعات الإنتاج السلعي والقوى العاملة المحلية... وكذلك فإن السياسات النقدية ترفع معدلات الفوائد الحقيقية إلى أعلى من المردود المتوقع من التوظيفات في قطاعات الإنتاج السلعي، وتمنع التوظيف المنتج، ما يسفر عن معدلات بطالة وهجرة مرتفعتين وإفقار لأكثرية اللبنانيين، وتأتي سيطرة الاحتكارات في كل القطاعات لتنتج ارتفاعاً كبيراً في الأسعار وانخفاضاً في القدرة الشرائية للقوى العاملة، وذلك لمصلحة رؤوس الأموال وأصحاب الثروات.
ولنلق نظرة سريعة على القطاعات الاقتصادية الأساسية:
1. قطاع الزراعة: شكل الإغراق بالواردات الزراعية العقبة الكبرى في وجه تنمية الزراعة في بلدان العالم الثالث ومنها لبنان. فمعدل دعم الإنتاج الزراعي في أوروبا يصل إلى 35% من قيمة هذا الإنتاج، وكل بقرة في أوروبا تنال دعماً يزيد على ثلاثة دولارات في اليوم. ونحن نستورد الحليب ومشتقاته من أوروبا دون حماية جمركية كافية، وبذلك يستحيل على المزارع اللبناني منافسة الإنتاج الزراعي الأوروبي... وللدولة دور أساسي في تنمية هذا القطاع عبر دعم الإنتاج والتسويق وتأمين الشتول المؤصلة والبذور، وتأمين مدخلات الإنتاج بأسعار معانة، والتمويل الزراعي لآجال ملائمة وبفوائد ميسرة، وبناء السدود وأقنية الري، والإرشاد الزراعي المجاني، وقبل كل ذلك، حماية الزراعة من سياسات الإغراق، فهذا القطاع يملك قابلية للنمو بسبب هواطل الأمطار المرتفعة ووجود 13 مناخاً يمكن إنتاج كل المحاصيل فيها.
2. قطاع الصناعة: تقدم قطاع الصناعة نسبياً في مراحل عدّة سابقة، وبفعل ظروف خاصة أحاطت بلبنان، ولكن سياسة الحكومات اللبنانية المتتالية كانت معادية لهذا القطاع، وعبّر ميشال شيحا، فيلسوف النظام والكيان، عن هذا العداء من قبل طبقة تجارية ومالية حاكمة... فالصناعة في لبنان تحتاج أولاً إلى حماية من الإغراق والمنافسة غير العادلة من قوى صناعية عريقة، وهي تحتاج إلى مؤسسات تمويل ميسّر متوسط وطويل الأجل. وبنية تحتية متكاملة: مناطق صناعية مؤهلة بكلفة منخفضة، طرقات تربط هذه المناطق بالمرافئ والمعابر الدولية والمدن، تأمين الطاقة الكهربائية على مدار الساعة بكلفة تقارب كلفتها في دول الجوار، مياه، صرف صحي، نظام مواصفات ومقاييس متقارب مع التي في الجوار، مؤسسات تعليم مهني مرتبطة بقطاع الصناعة، تحديث القوانين اللبنانية التي تحمي المساهمين الصغار، ربط الصناعة بالجامعات اللبنانية... وتبدو الحكومات اللبنانية غير مهتمة بقطاع الصناعة القادر، مع قطاع الزراعة، على تأمين فرص العمل المجزية وتحقيق النمو المتوازن بين المناطق، كما تحقيق تنمية شاملة دائمة... لقد فشلت محاولات إقامة صناعات متطورة بسبب السياسات الحكومية المعادية.
3. القطاع المصرفي: بني القطاع المصرفي في الأساس لتمويل قطاع التجارة، وخاصة الواردات من الغرب. ولم يتطور هذا القطاع نحو البنوك الشاملة ليتمكن من تمويل قطاعات الإنتاج السلعي، رغم المحاولات التي قام بها مصرف لبنان من تأمين البنية التحتية، مثل إنشاء «ميد كلير» لتمكين المصارف من إجراء عمليات التشميل والتوريق «securitization»... كذلك فإن عملية إنشاء بنوك متخصصة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات منيت بفشل ذريع نتيجة القوانين التي حكمت قيامها، وحجبت عنها الودائع عملياً، ثم نتيجة الإقراض بالليرة وبفوائد ثابتة في وقت انهار فيه سعر صرف الليرة وارتفعت الفوائد، مواكبة التضخم، إلى معدلات عالية جداً، وانتشرت فروع المصارف خارج بيروت ومحيطها بشكل خاص، لا لتمويل قطاعات الاقتصاد هناك، بل لجمع الودائع وإقراض معظمها في بيروت المركز. وبالتالي، لم يكن لافتتاح فروع للمصارف في المناطق أثر كبير على التنمية.
4. السياحة: تحتاج السياحة إلى بنية تحتية متكاملة: طرقات خالية من الحفر والمطبات، وتغذية دائمة بالتيار الكهربائي، وفنادق ومطاعم مراقبة من ناحيتي الصحة والكلفة، وهي بحاجة إلى نقل ميسّر... فالسياحة في جميع بلدان العالم تستهدف متوسطي الدخل لا الأثرياء فقط، وهذا غير متوفر في لبنان.