التنظيمات المحظورة انتقلت من الأرض إلى السماء، من «الإخوان» والشيوعيين، إلى شباب الفايسبوك والمدونات. عنوان قديم على معارضة جديدة، وانتظار لمجهول غامض سيأتي، والجميع يترقبون هوجة الجائعين والمظلومين
وائل عبد الفتاح
المشهد رومانسي تماماً، طائرة ورقية على شكل علم مصر في سماء الإسكندرية، فوق بحرها المثير للشجن، مخترقة الحواجز، ومثيرة لانتباه الباحثين عن إجازة صيف رخيصة بين الزحام على أشهر كورنيش في ذاكرة المصريين.
الطائرة دارت دورتين، وتعالت معها صيحات حماسة وأصوات خشنة تغني «مصر يا أمة يا بهية». فجأة انتهى المشهد بسيارة زرقاء يعرفها أصحاب الطائرة وجمهور المصطافين جيداً. ترجّل شخص استعراضي، ومن خلفه فرقة رجال تقفز شراستهم من عيون متحفزة وأجساد مستفزة. سريعاً حاصروا المنطقة وأنزلوا الطائرة واعتقلوا المغنين. وأعلنوا القبض على «التنظيم المحظور».
هذه هي التهمة التي تواجه ١٣ شاباً أمام نيابة الإسكندرية، التي رأت أنهم خطر على سلامة البلاد، فهم ارتكبوا الجرائم الآتية: التجمهر (وهو وصف لأي تجمع يشمل ٥ أشخاص) وترديد شعارات وهتافات مناهضة لنظام الحكم وتوزيع منشورات تحض على الكراهية وتعمل على تكدير السلم العام والدعوة إلى التغيير من طريق الانضمام إلى جماعة محظورة.جماعة محظورة؟ الوصف تستخدمه عادة الأجهزة الأمنية وصحافتها مع جماعة «الإخوان المسلمين»، لكن هؤلاء ليسوا إخواناً. هم شباب اشتركوا في مجموعات على موقع «الفايسبوك» دعت إلى الإضراب الشهير في ٦ نيسان، الذي أصبح علامة شهيرة على نوع جديد من التمرد على نظام حسني مبارك.
هل تقصد أجهزة الأمن أن «مجموعات ٦ نيسان» تحوّلت إلى جماعة منظمة؟ هل تصدق أن الشباب الذي أراد الاحتفال بثورة تموز على طريقته الخاصة بالسفر إلى الإسكندرية هم نواة تنظيم جديد لقلب نظام الحكم بالأغاني والطائرات الورقية؟ أم أنه الهوس الذي أصاب أجهزة الأمن بعد إضراب ٦ نيسان ودفعها إلى البحث عن أي خيط تحاصر به المجموعات التي كسرت حواجز الأمن وأقامت خطوط اتصال افتراضية صنعت أكبر هزة لنظام مبارك؟ أي خيط ولو كان خيط الطائرة الورقية يجعل الأجهزة، التي تعودت مطاردة التنظيمات السرية وكيانات تحت الأرض، تنجح في مهمتها لقتل «الثورة الافتراضية» قبل أن تخرج من أجهزة الكمبيوتر إلى الشارع.
يتحدث أحمد ماهر، منسق «مجموعة ٦ نيسان»، عن مطاردات الطائرة الورقية: «سافرنا إلى الإسكندرية للتعرف إلى زملاء لنا في مجموعات الفايسبوك وللتضامن مع سجناء الرأي. كنا نشعر بمراقبة أمن الدولة. وعندما أدركنا أنه يمكن اعتقالنا، قررنا العودة إلى القاهرة. إلا أن أمن الدولة كان أسرع».
القبض على التنظيم «الافتراضي» نقلة نوعية في حرب أجهزة الأمن. إنها محاولة لوضع الظاهرة في قالب تستطيع الأجهزة التعامل معه. قالب قديم: التنظيم السري. الأجهزة خبيرة بطرق ملاحقته وأساليبها محفوظة: الاختراق عبر تجنيد عناصر سرية والاعتقال والتعذيب والسجن.
هذه هي الرسالة المباشرة من اعتقال تنظيم «الفايسبوك»: تخويف آلاف الشباب من الدخول إلى مسرح الشأن العام. هي ليست الرسالة الأولى. فقد كان اعتقال إسراء عبد الفتاح، نجمة إضراب ٦ نيسان، إشارة إلى أن النضال في الغرف المغلقة ليس بعيداً عن قبضة الأمن الحديدية. الرسالة الأولى وجدت صدى وأثارت الرعب فعلاً، وها هي الرسالة الثانية تريد القضاء على جيل الغضب الذي خرج من جزر الإنترنت المعزولة. شباب، من العشرين إلى الأربعين، تربوا على الخوف من السياسة وكراهية العمل الجماعي، فالنظام لا يحب الحديث في السياسة من دون إذن، ويكره أي جماعة بعيدة عن صناعة يده.
هؤلاء وجدوا في الإنترنت مساحة حرة، يكتبون فيها بلا مخبر ولا رقيب. كتابة متمردة تحطم أسوار المحرمات كلها، سياسة وجنس ودين. تتنفس حرية. وتعيش في جنة افتراضية.
البداية كانت من المدونات الشخصية، التي أصبحت جنة الحرية على الإنترنت. ومع سخونة الأحداث السياسية، انتقلت المدونات من جزيرة للأحلام الشخصية إلى حائط تنشر عليه الوقائع. كارثة اغتصاب المتظاهرات أمام ضريح سعد يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76 (أيار ٢٠٠٥) ولّدت الرغبة في الخروج الجماعي إلى الشارع.
رغبة جيل في التغيير، في مصر جديدة بلا رئيس أبدي ولا شرطة تضرب المعارضين. خروج المدونين كان الظاهرة الأهم في حركة المعارضة الجديدة لأنهم فرادى بلا تنظيمات. حضورهم طازج وساخن بلغة هاربة من جمود السياسيين القدامى، ورغبة حارقة في تعبير جديد عن الذات والمجتمع.
اللجوء إلى الإنترنت هو محبة للبلد وهروب من مصير التعليم الرسمي. رغبة في ثقافة مفتوحة خارج توابيت التحنيط في ثقافة المدارس والجامعات. شرائح اجتماعية ترى التعليم والثقافة مهارتها الوحيدة بعدما طارت أحلام الثروة مع الفساد. وهناك على الإنترنت ولدت فكرة «إننا نستحق أن نكون مجتمعاً افضل»، «نستحق مصر جديدة».
تحوّلت المدونات إلى صحافة شعبية خارج الخطوط الحمراء، فجرت قضايا أهمها التعذيب في أقسام الشرطة، وكونت مزاج غضب أثمر في «الفايسبوك». مجموعات جديدة خلقت بذور صحافة فردية. من هذه الحرية خرجت بشائر معارضة جديدة أزعجت القديمة (الأحزاب الشرعية والجماعات المسيطرة على أصحاب الحس الديني)، ومثّلت خطراً على وجودها وصدقيتها، كما كشفت انسداد أفقها العاجز عن الخروج عن أسوار النظام وصفقاته.
«معارضة ديجيتال»، كما سخر أصحاب الهوى القديم في ممارسة السياسة. قد تكون من دون وعي خبير بالتنظيم، وقد تتميز بمراهقة سياسية وتستعيد مزاج اليسار في الستينيات. لكن الأفكار والطرق مبتكرة. إنها بداية وليست نهاية، وأفقها ليس بناء جهاز للثورة، بل بث روح التمرد والتعبير عن الاحتجاج وشجاعة الاهتمام بالشأن العام.
الإنترنت هو مفتاح برنامج سياسي لا يحترم الصفقات مع النظام. لكنه لا يعادي ولا يصادق إلا على قواعد عريضة من الحقوق والواجبات لمواطن في دولة حديثة. وطنية من نوع مختلف. وعلامات الغضب لجيل خرج إلى الشارع، والآن إلى الزنازين.


أسطورة الجهاز السري
استيقظت التنظيمات السرية الخاصة فجأة. خرجت من كهوفها البعيدة. والجماعة الإسلامية أطلت من كهفها الإلكتروني لتعيد اتهام التنظيم الخاص لـ«الإخوان» بمحاولة اغتيال عبد الناصر

الجماعة الإسلامية الآن هي مجرد تنظيم افتراضي. موقع على شبكة الإنترنت يقوده أمراء التوبة: ناجح إبراهيم وكرم زهدي وغيرهما من أصدقاء النظام الآن المسالمين. هم منافسون لـ«الإخوان» في الاعتدال. يريدون نزع الصفة عن التنظيم الباحث عن طريق للاعتراف العلني والتحول إلى حزب سياسي. التنظيم متردد. يتنازعه تيار متشدد وتيار إصلاحي. الانتصار للمتشدد حتى الآن. ربما لأن المرشد الحالي، مهدي عاكف، خريج «الجهاز الخاص»، وقبل 50 سنة أقسم على البيعة. القسم لم يكن على المصحف فقط، بل كان مصحوباً بمسدس وأمام رجل ملثم، في الغالب كان عبد الرحمن السندي، أول زعيم لهذا الجناح العسكري.
مهدي عاكف هو ابن هذه العقلية التي ترى أن الطريق إلى الحكم تمر عبر القوة المسلحة. لكن هل أعاد «الإخوان» في السر تأسيس الجناح العسكري، الذي عرف باسم «الجهاز الخاص». جهاز قرر حسن البنا تصفيته سنة 1948، لكنه اتهم سنة 1954 بمحاولة اغتيال عبد الناصر. وكانت محاكمة سيد قطب 1965 آخر قضية يرتبط فيها «الإخوان» بفكرة التنظيم المسلح.
«الإخوان» تنظيم بلا سلاح. لكن يبدو أن فكرة التنظيم السري لم تمت. وبدا من اعترافات القيادي المنشق عبد الستار المليجي في «المصري اليوم» أن التنظيم «الافتراضي»، لا يدير ميليشيات مسلحة أو جناحاً عسكرياً، لكنه «يسيطر على الجماعة والمرشد ويوزع أموال الإخوان لتعزيز مواقع أتباعه».
«التنظيم السري»، كما في اعترافات المنشق، هو «جهاز تحكم وإدارة» للجماعة المرتبكة الآن في ظل ضربات الأمن وصراعات الأجيال، التي كشفت عن تنظيم أقل بكثير من أسطورته في الأذهان. بل إن المليجي قال إن «الأعداد الحقيقية لا تتجاوز ١٠٠ ألف بالمحبين وجيران المحبين والمتعاطفين».
قيادات «الإخوان» أنكرت اعترافات المنشق. وزادت فأنكرت وجوده في التنظيم. وعلقت على مقالات الجماعة الإسلامية بأنها «نبش في الماضي». لكن هذا لم يشبع الفضول الكبير للكشف عن غموض التنظيم المغلق والمعلن في الوقت نفسه. الجماعة لم تعد سرية، لكنها لم تصل بعد إلى العلنية. هي معتدلة ومتطرفة، صدامية ومهادنة. تبدو الآن في طريقها إلى مرحلة جديدة، لكنها لا تنطلق من نقطة قوة، بل من نقطة تفتح فيها مخازنها بروايات من تاريخها الثقيل، لتنزع عنها ماركة الاعتدال ولتدخلها في نفق الدفاع عن إقامتها الطويلة على خط التطرف.
اللافت أن هذه الصراعات حول التنظيم السري على صفحات الصحف، ولا حركة ملموسة، إنها مجرد يقظة أسطورة نائمة اسمها «التنظيم السري».


ثورة تبحث عن تنظيم

«أرض الفراعنة على حافة ثورة»، هو اسم الكتاب الذي منعته السلطات المصرية للصحافي البريطاني جون برادلي. قرار المنع صدر عشية الاحتفال بالذكرى الـ 56 لثورة تموز، حيث يشير صاحب الكتاب إلى أن مصر تعيش أجواءً شبيهة بالأيام السابقة للثورة.
نبوءة الثورة ليست جديدة. وردت في الأسبوع نفسه في حديث القيادي في الحزب الحاكم، الدكتور مصطفي الفقي، أمام نادي الروتاري. قال بالنص: «إن ثورة الجياع أمر محتمل حدوثه، لأن القاهرة محاطة بحزام يتكون من سبعة ملايين مواطن في المناطق العشوائية». قال ذلك بعدما تحدث عن مغامراته في كواليس السلطة.
حديث مغامرات الفقي غطى على إشاراته إلى «أربعة ملايين مواطن مصري يعيشون في الشوارع ويمثلون مستودعاً للجريمة» وأن «زواج السلطة والمال نتيجته الفساد». المخاوف من ثورة الجياع لم تدفع الفقي الا لنصيحة ببعض الرتوش على النظام: «خطة للقضاء على الفساد ومراعاة للعدالة الاجتماعية».
لكن ثورة برادلي مختلفة، فهو تحدث في كتابه عن تفشي الفقر ومعسكرات التعذيب والديموقراطية المزيفة التي تحولت إلى نكتة. كشف عن الجانب المظلم لمجتمع «شمولي فاسد مليء بالبثور».
برادلي رأى في حوار مع «المصري اليوم» أن «مصر تتجه إلى هاوية، فالغني يزداد ثراءً، والفقير يزداد فقراً، والهوة بين الشعب والنظام تزداد اتساعاً». وأشار إلى أنه «لا يهم من سيحكم مصر لأنه سيكون مستبداً مثل سابقه وسيستمر أغنياء الحرب في سرقة البلاد حتى تنفد خيراتها. أعتقد أن النظام نفسه يجب تغييره، لا الأفراد».
برادلي، الذي أقام فترات في القاهرة وعمل في صحفها، يرى أن النظام المصري فقد قدرته على التواصل مع التعددية، وهذا يلخّص الأزمة التي تدفع مصر إلى انتظار ثورة. هذا الانتظار مثير للتأمل لأنه يعبر عن أشواق ورغبات. لكنها ثورة من دون تنظيم. ثورة في ذهن الناس تشبه ما حدث ليلة ٢٣ تموز ١٩٥٢ حين خرج الجنرالات الصغار من الثكنات، وبين ليلة وضحاها أزاحوا الملك وجلسوا على عرش مصر. ملوك جدد من عامة الشعب.
هناك اختلاف في ما آلت اليه ثورة الضباط. وهل هي المسؤولة عن الوصول إلى الحافة، أم أنها انتهت مع عبد الناصر؟ وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني شاركت في احتفال السفارة المصرية في تل أبيب بالثورة. ولم تذكر أن جيش هذه الثورة كان يقود الحرب على إسرائيل، لكنها قالت إن النزاع في الشرق الأوسط تغير الآن وأصبح بين المعتدلين والمتطرفين. تغيير جعل ليفني تحتفل بثورة عبد الناصر، لكن كيف ينعكس في شكل الثورة؟