جوان فرشخ بجالي
«كتّاب مدينة يهوذا ابتكروا وصفهم لمدينة أورشليم عندما نصّوا التوراة في القرن السابع قبل الميلاد»

عندما أعلن رئيس بلدية القدس المحتلة، الحاخام يوري لوبوليانسكي، وقف أعمال الإنشاءات قرب المسجد الأقصى، أكد أن التنقيبات الأثرية في مكان البناء ستمضي قدماً. وهو أمر، وإن لم يُعره المتظاهرون أهمية كبرى، إلا أنه يعدّ، من وجهة نظر المتابعين لهذا الملف، خطيراً جداً، ويشكل، على الأرجح، السبب الأساس للعمل على الموقع.
ويؤكد هذا التخوف تصريح بعض علماء الآثار العاملين في الموقع لصحيفة «اسرائيل اليوم»، فهم متفائلون بالعثور على مخطط الطريق الرومانية التي كانت تؤدي إلى «الهيكل اليهودي الكبير». فهل استعملت إسرائيل ذريعة إعادة بناء الممر، لا للوصول إلى أساسات المسجد الأقصى، وإنما للقيام بحفريات أثرية تثبت وجود الهيكل على هذه الأرضية؟
تعتبر الدولة العبرية، منذ عام 1967، القدس عاصمة لها، وهي تحاول مذّاك أن تخلق عند الرأي العام العالمي فكرة أن هذه هي مدينتها المقدسة، وأن الطغاة عبر التاريخ هم من سلبوها هذا الإرث الثقافي والديني.
وكانت إسرائيل قد بدأت منذ سنين العمل على هذا المخطط. فحائط البراق، الذي يسميه الإسرائيليون حائط المبكى، ويدّعون أنه «المعلم الوحيد الظاهر لهيكل سليمان» ويزوره كل يهود العالم، هو في الحقيقة حائط دعم يعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد، أي فترة الغزو البابلي لأورشليم وتدمير المعبد.
ولكن، بعد احتلال القدس الشرقية خلال نكسة 1967، هدم الإسرائيليون حي المغاربة المقابل للحائط لخلق ساحة واسعة تتسع للزوار. وبدأوا بالإشارة الى الحائط على أنه الجزء الشرقي لهيكل سليمان.
وهذا هو التعريف الذي تعتمده وسائل الإعلام الغربية، رغم عدم وجود دليل حسي وأثري يؤكد انتماء الحائط هذا إلى هيكل سليمان. بل ليس في حوزة إسرائيل أي دليل قاطع على وجود الهيكل في باحة المسجد الأقصى؛ فهذه كلها نظريات وضعها مؤرّخو العهد القديم والتوراة استناداً الى الوصف الذي أعطي للمبنى. ولا يزال الاختلاف قائماً بينهم حول تحديد مكانه إن تحت المسجد الأقصى أو في الباحة.
ويؤكد كبير علماء الآثار في إسرائيل، مدير «معهد صونيا ومركو نادلر للأبحاث» في جامعة تل أبيب، البروفسور إسرائيل فينكلشتين، على «أن معبد سليمان لم يكن يوماً بالأهمية التي يحكى عنها، ولا حتى بالحجم الذي يوصف به، فأورشليم (أي القدس في فترة حكم الملكين: سليمان وداود) لم تكن إلا قرية صغيرة، والمعبد بني على حجمها، وليس هناك إثبات حسّي على وجود المدينة بالحجم الذي كتب عنه في التوراة».
ويقول فينكلشتين، في كتابه «رفع الحجاب عن التوراة: رؤية علم الآثار لإسرائيل القديمة ومصدر نصوصها المقدسة»، إن «اعتبار القدس مدينة تضاهي كبرى المدن الاشورية أو البابلية أو المصرية القديمة إنما هي دعابة. فلم يعثر يوماً فيها على أي من ميزات تلك المدن كالمداخل الضخمة المزينة باللوحات الجدارية والمنحوتات ولا حتى أساسات هذا الهيكل الذي يفترض به أن يضاهي معابد الفراعنة. من غير الممكن أن يكون هناك في أورشليم معبد يضاهي روائع مصر القديمة. وذلك لأن المدينة لم تصل يوماً الى الذروة التي كُتب عنها في الكتاب المقدس».
وبحسب فينكلشتين، فإن اللغط التاريخي حول مدينة القدس هو «وليد الايديوليوجية التي اتّبعها كتّاب مدينة يهوذا عندما نصّوا التوراة في القرن السابع قبل الميلاد، وأتى وصفهم لمدينة أورشليم وهيكل سليمان ثأراً للتاريخ. فالمدينتان كانتا في حالة تنازع دائم».
ويشكك فينكلشتين حتى بقيام مملكة يهودية موحدة تحت إمرة الملكين: داود وسليمان. ويقول «كانت القدس مقر سكن طائفة صغيرة ترفض الاختلاط والتعامل مع شعوب المنطقة، بينما كان أبناء مملكة إسرائيل (أي الواقعة على الحدود الشمالية) يتاجرون ويتعاملون مع باقي الشعوب، وهذا ما سمح لهم بالاغتناء وبناء حضارة مزدهرة. ولم تقم مملكة يهوذا إلا بعد 150 سنة على زوال مملكة إسرائيل، وكان لديها في ذلك الحين حساب طويل تريد تصفيته مع مملكة اسرائيل؛ فقام كُتّابها وكهنتها بوضع أسس التوراة وأعادوا كتابة الكتاب المقدس بالشكل الذي يتماشى مع عقائدهم ومبادئهم، ولم ينسوا الثأر للتاريخ. جعلوا من القدس ما لم تكن عليه يوماً، لا بل إنهم أعطوها كل مقومات المملكة التي كانت على خلاف معها».
ويؤكد فينكلشتين أنه في «أيام الملك سليمان، لم تدرج العادة بأن يذهب اليهود جميعاً الى أورشليم للصلاة في هيكل سليمان، بل كان لسكان مملكة الشمال معابدهم في سماريا وبيتال».
ولكن الجدير بالذكر أن ما حاول فينكلشتين إظهاره في كتابه هذا، الذي لاقى رواجاً هائلاً، وكان لشهور الأول في المبيعات في أوروبا وأميركا، هو «أن شعب مملكة يهوذا لم يكن يتمتع بأي قوة عسكرية أو حتى إقليمية، فهم كانوا أبناء قبيلة صغيرة خائفة تعيش في قرية صغيرة ولها معبدها». وهذا المعبد الصغير الضائع في باحة مسجد الأقصى هو الحافز اليوم للقيام بالحفريات الأثرية.
يشار إلى أن علماء الآثار العاملين هناك لا يشاطرون فينكلشتين رأيه، وهم يبحثون عن المعبد، وأيّ آثار قد يجدونها ستفي بالغرض. فتسييس التاريخ والمعطيات الأثرية إنما له مختصّوه في اسرائيل. ويبقى السؤال: ماذا بعد الحفريات؟


إن معبد سليمان لم يكن يوماً بالأهمية التي يحكى عنها ولا حتى بالحجم الذي يوصف به، فأورشليم (أي القدس في فترة حكم الملكين: سليمان وداود) لم تكن إلا قرية صغيرة، والمعبد بني على حجمها، وليس هناك إثبات حسي على وجود المدينة بالحجم الذي كتب عنه في التوراة