يحيى دبوق
إذا لم يكن السجال الذي دار حول شخصية أشرف مروان، صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كافياً لرسم معالمها الحقيقية بين البطولة والعمالة، فإن شهادة رجل شغل منصب رئيس شعبة الاستخبارات العكسرية في الجيش الإسرائيلي كفيلة بأن تُطعِّم هذا السجال بإضافة نوعية، وخاصة أن هذه الشهادة تتخذ طابع التحليل الموضوعي غير المغرض.
فقد حاول شلومو غازيت، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، تقديم مقاربة خاصة لقضية مروان، أكد فيها أن «بابل»، كما لقبته الصحافة الإسرائيلية، «كان أحد مصادر الـ«يومنت» (الاستخبارات البشرية) الكبار والهامين لدى الاستخبارات الإسرائيلية في مصر قبل حرب عام 1973»، لكنه في الوقت نفسه لم يتوصل إلى حسم حقيقة تعامله مع هذه الاستخبارات، لجهة كونه عميلاً جاسوساً أو مزدوجاً زرعته المخابرات المصرية.
ويوضح غازيت أن «بابل» تطوع للتعامل مع الموساد بمبادرة منه و«غذانا بمعلومات نوعية جداً، حيث وفر لنا موقعه البارز (في القيادة المصرية) الاطمئنان إلى أننا نملك إنذاراً مبكراً هاماً، بحيث لم يكن يُعقل ألا يطلع بابل على أية قرارات عسكرية هامة تتخذها القيادة المصرية».
ويروي غازيت أن «الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية انتظرت من بابل، قبيل حرب يوم الغفران، تأكيد المعلومات التي تراكمت، عن الاستعدادات العسكرية العربية أو نفيها. وفي الرابع من تشرين الأول، أي قبل يومين من الحرب، اتصل بابل طالباً مقابلة عاجلة في لندن، مع رئيس الموساد، تسفي زامير، حيث أكد له نية شن هجوم سوري مصري متزامن على إسرائيل، محدداً اليوم (السادس من تشرين الأول) وساعة الصفر، التي تبين لاحقاً أنها لم تكن دقيقة». وبحسب غازيت، إن المعلومات التي أفاد بها «بابل» هي التي حسمت التردد في إسرائيل لجهة الاستدعاء الفوري للاحتياط في الجيش، قبل يوم من الحرب.
وهنا، كما يشرح غازيت، أثيرت علامات الاستفهام حول حقيقة تعامل مروان مع «الموساد»: فإقدامه الطوعي لعرض خدماته الاستخبارية من جهة، ومن جهة أخرى التأخر في إعطاء الإنذار بشأن الحرب حتى ما قبل يوم من حدوثها، رغم الاعتقاد بأنه كان يعلم بالتأكيد بخطتها قبل وقت مطول، إضافة إلى إعطائه توقيتاً خاطئاً لساعة الصفر، كل ذلك «أثار شكوكاً قوية لدى الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية باحتمال أن يكون بابل عميلاً مزدوجاً زرعته الاستخبارات المصرية من أجل خدمة خطط الخداع التي عملوا عليها».
ويشير غازيت إلى أنه لدى تسلمه قيادة شعبة الاستخبارات العسكرية، في نيسان عام 1974، اطلع على تحقيقات كانت قد أجريت للتثبت من صدقية «بابل»، أفضت إلى نتائج غير حاسمة. وقد بقيت هذه النتائج على حالها، رغم إجراء تحقيقات جديدة، أمر هو شخصياً بها. وهكذا، يرى غازيت، أن «أكثر من ثلاثين عاماً مرت حتى الآن، ولا تزال مسألة بابل غير محسومة».
ويختم غازيت بالقول إن الموت الغامض لمروان في لندن «جاء ليُعقّد القضية أكثر فأكثر». ويتساءل: «هل كانت هذه حادثة عرضية؟ أم أنه انتحر؟ أو ربما تعرض للاغتيال من أحد أجهزة الاستخبارات؟ في هذه المرحلة لا نعرف أي شيء. وفي كل الأحوال، إذا كانت الاستخبارات المصرية هي المسؤولة عن تصفية أشرف مروان، فإن ذلك يعزز الادعاء بأن بابل لم يكن عميلاً مزدوجاً».