هآرتس ــ عوزي بنزيمان
تشبه صلية المبادرات ومقترحات السلام التي تُغدقها حكومة أولمرت على حكومة محمود عباس وسلام فياض الأمطار الزعاف التي تشوش الحياة في بريطانيا الآن، وهي تبعث على التفكير في سخرية القدر التي ينطوي عليها التوقيت الذي تحدث فيه الأمور. لكن فيما السيل في شبه الجزيرة البريطانية هو من صنع الطبيعة القاهرة، فإن توقيت المجريات السياسية الإسرائيلية هو من صنع الإنسان، وبالتالي يوجب التأمل: أليس ما تقوم به إسرائيل هو بحث عن الجياد بعدما فرّت من الحظائر؟
في الشهر الأخير، تمكنت إسرائيل من الاستجابة لمطالب القيادة الفلسطينية الآتية: إطلاق سجناء، وتحرير الأموال المجمدة، واستيراد السلاح، ووقف ملاحقة 200 مطلوب في الضفة الغربية، ولقاءات سياسية على المستوى الأعلى، ونشر مقترحات سلام بعيدة المدى. إضافة الى ذلك، تعاونت حكومة أولمرت مع تحركات سياسية دولية رامية إلى رفع المكانة الاعتبارية لأبو مازن وسلام فياض ومنح الجمهور الفلسطيني شعوراً بأن قضيته تحظى الآن باهتمام العالم كله، وأنه سيشهد تسهيلاً ملموساً في حياته وتخفيفاً من ضائقته في الفترة القريبة.
وكأن ذلك كله لم يكن كافياً، فقد أخذ ناطقون باسم الحكومة في القدس (إيهود أولمرت، حاييم رامون، تسيبي لفني) بالتلميح إلى استعدادهم للتباحث مع القيادة الفلسطينية في القضايا التي كان يُخشى من البحث فيها حتى الآن: سحب قوات الجيش الاسرائيلي من مدن الضفة ومبادئ التسوية الدائمة؛ حتى أن حاييم رامون رسم بوضوح خريطة سلام تشبه إلى حدّ الدهشة تلك التي وضعها إيهود باراك على طاولة ياسر عرفات في قمة كامب ديفيد في تموز 2000.
هذه الوفرة في التنازلات التي تغدقها إسرائيل بشكل مركز على السلطة الفلسطينية هي أمر إيجابي ومُرحّب به بحد ذاته، إلا أنه يطرح تساؤلات عن سبب تأخر حدوثه قبل هذا التوقيت، فأبو مازن كما نعلم كان يتمنى ذلك ويطلبه خلال فترة رئاسته للوزراء في ظل ياسر عرفات وبعد ذلك عندما حل محله؛ إلا أن الاستقبال الذي قوبل به في أروقة الحكم الإسرائيلية كان اللقب المهين: «صوص بلا ريش». فجأة، في الصيف الأخير، تحول أبو مازن إلى عزيز على حكام إسرائيل الذين باتوا يخرجون عن أطوارهم من أجل إرضائه.
للوهلة الأولى، يبدو أن الحماسة الحكومية مسألة بديهية: أبو مازن وفياض غيّرا نهجهما، ولذلك تقوم إسرائيل بإثابتهما كما يجب على ذلك. فهما قاما بإبعاد المسلحين عن الشوارع، وسحبا الشرعية عن حكومة إسماعيل هنية، ويتحدثان عن السلام ويتنازلان عن استخدام مصطلح «المقاومة» في وثائقهما الرسمية، وهما يُبديان الاستعداد العملي لضمان قوتهما في الضفة الغربية ويسعيان لإبعاد حماس عن غزة. بكلمة واحدة: لقد أنبتت الصيصان ريشاً، ولذلك استحقّت حبات القمح. إلا أن هذا التفسير يرتكز على الافتراض الحتمي بأن الواقع القائم في قطاع غزة والضفة في تموز 2007 قد فُرض بالقضاء والقدر، وأن إسرائيل لم تكن قادرة على التأثير في مجرياته. ليس ممكناً التسامح معهم والامتناع عن القول إن الاستجابة لتوقعات أبو مازن في حينها (قبل ثلاث أو أربع سنوات) كان من شأنها أن توفر على القيادة الإسرائيلية الحاجة الى التحرك المتسرع الآن إلى حد الهلع من أجل تعزيز مكانته. ذلك أن المطالب التي تستجيب لها القدس الآن هي المطالب نفسها التي طرحها القائد الفلسطيني في السابق.
هذا ليس نقاشاً عقيماً؛ إنه يتعلق بالتساؤل عمّا إن كانت إسرائيل قد فوّتت الموعد، أو على العكس، إن كانت تتحرك وهي تعي أن البوادر الايجابية التي تقوم بها الآن هي مسألة بروتوكولية فقط، لا يمكنها أن تُغير الواقع الناشئ في السلطة الفلسطينية. بكلمات أخرى، أليس ممكناً أن يكون أولمرت يُقدر أن أبو مازن وفياض لن ينجحا في الصمود لفترة طويلة في رام الله، وبالتأكيد لن يتمكنا من العودة الى مقر الرئاسة في غزة، وأن كل تصريحاته وتحركاته الآن موجّهة لخدمة الذريعة المقبلة؟ من ناحية أخرى، إذا كان أولمرت وأقرانه في الحكم صادقين في اعتقادهم بإمكان تعزيز القيادة الفلسطينية، أفلا يبرهنون من خلال ذلك على أن إسرائيل بحاجة دائماً الى عدو الغد حتى تتنازل لعدو اليوم؟ الشعار الحمائمي «السلام يُصنع مع الأعداء» تُفسّره إسرائيل الرسمية على طريقتها الخاصة: فقط عندما يكون لديها أعداء جدد، تصبح مستعدة للتوصل إلى تفاهم مع العدو القديم.