مهدي السيد
ألقت تداعيات فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان بظلالها على الحلبة السياسية في إسرائيل، لتكون خطة «الانطواء» أولى ضحاياها، مع ما يعنيه هذا الأمر من انعكاسات سياسية وحزبية شديدة على الحلبة الداخلية، وعلى مستقبل حزب كاديما، وبالتالي على مستقبل قادته، ولا سيما رئيس الحكومة إيهود أولمرت، ومعهما مصير الائتلاف الحكومي.
لكن الأثر الأكبر، على المدى المنظور، سيكون على الاستراتيجية السياسية التي بدأت تتبلور معالمها مع الرئيس السابق للحكومة أرييل شارون، والتي تمثلت في خطته لفك الارتباط عن غزة؛ ومن ثم استُكملت مع انتخاب اولمرت رئيساً للحكومة عبر طرحه مشروعه السياسي للانطواء في الضفة الغربية، وهي استراتيجية يحاول كثير من منتقديها إدراج قرار رئيس الحكومة السابق إيهود باراك الانسحاب من لبنان في العام 2000 ضمنها، بغض النظر عن الملاحظات التي يمكن تسجيلها في هذا المجال.
تتمثل هذه الانعكاسات في تزايد المواقف التي ترى أن ما حصل في لبنان، وقبله في غزة، يشكل دليلاً وبرهاناً على خطأ مبدأ الانسحابات من جانب واحد، وأن تنفيذ هذا المبدأ واعتماده فاقم من حدة المخاطر التي تواجهها إسرائيل على المستويين التكتيكي والاستراتيجي؛ وما قرار إزاحة خطة الانطواء عن جدول الأعمال إلا تعبير عن هذه الحقيقة من جهة، واستجابة للتتغير الذي طرأ على المزاج العام الذي ساد الجمهور الإسرائيلي في أعقاب تطور الأوضاع في غزة ولبنان، من جهة ثانية.
ويفيد الانطباع العام السائد في إسرائيل اليوم بأنه لا مكان بعد الآن لأي حديث عن انسحابات من طرف واحد، اي من دون اتفاقات ومن دون الحصول على اي مقابل، وبالتالي يمكن القول إنه من الصعب العثور في إسرائيل الآن على من يخالف هذا التوجه. بيد أن ما يجدر الالتفات اليه هو أنه رغم الاتفاق على مخاطر وسلبيات مبدأ الانسحاب الأحادي الجانب، إلا أن ثمة خلافاً بين تيارين، يمثلان إلى حد كبير وجهتي نظر اليسار واليمين؛ الأول يرى أن معارضته للانسحاب من طرف واحد لا تعني بأي حال من الأحوال معارضة التوصل إلى حلول تتضمن خطوات من بينها انسحاب الجيش الإسرائيلي من مناطق محتلة، بل المقصود هو معارضة حصول ذلك من دون التوصل إلى اتفاق مع الطرف الثاني المعني بالموضوع، إذ إن من شأن اتفاق كهذا تقليص مستوى المخاطر إلى أدنى مستوى، مقابل ضمان الحد الأقصى من الايجابيات، وإنه لو جرى اتباع هذه الاستراتيجية مع لبنان وغزة لما آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن. في المقابل، يعارض الطرف الثاني مبدأ الانسحاب من أساسه، ولا سيما من المناطق الفلسطينية لاعتبارات دينية وايديولوجية بشكل خاص، إضافة إلى اعتبارات أُخرى أقل أهمية.
يمكن القول إن الواقع السياسي في إسرائيل مشتت الآن بين توجهات عديدة، وإن نقطة الارتكاز السياسية التي استندت اليها الحلبة السياسية خلال الأشهر الأخيرة، أي الانطواء، قد انهارت، وبالتالي لا بد من نقطة ارتكاز جديدة؛ فلا يمكن لأي حكومة أو مجتمع سياسي الحراك في ظل غياب بوصلة عمل سياسية.
وهذا ما يفسر اعتقاد كثير من المراقبين في إسرائيل بأن فشل العدوان على لبنان أدخل إسرائيل في دوامة ومأزق لا يمكن الخروج منهما إلا من خلال إعادة تشكيل للواقع السياسي والاجتماعي، وهو ما لن يحصل إلا من خلال تقديم موعد الانتخابات العامة. فهل ستستجيب الحكومة لهذه المعادلة أم تقرر الفرار من ذلك عبر الشروع في مغامرة جديدة؟