كنا في ليلة سمر مع عائلة حصلت على جنسيات أجنبية بسبب «بركات» الحروب المتكررة في لبنان. دار النقاش حول خطط السياحة في هذا الصيف. التفت إليّ أحد الموجودين عارضاً حجز تذكرة سفر لي على حسابه. لم أستطع إخفاء الضحكة الصفراء. قلت له إن العلّة ليست في المال دوماً؛ جواز السفر الصادر عن «السلطة الفلسطينية» في رام الله، ليس مرحباً به في أغلب دول العالم، بل قد يوصلني إلى «أقرب حاجز» في أحسن الأحوال.
هي حقيقة صار واجباً أن نتصالح معها: جواز سفرنا «تهمة» نحملها بيدنا. لا أحد يريدنا على أرضه. الدول الحليفة لإسرائيل، كالولايات المتحدة وأوروبا وأوستراليا، وكذلك الدول «الصديقة والشقيقة»، مثل قطر وتونس وتركيا، حتى بعض الدول الحليفة كإيران. كلٌّ له مبرراته، من كذبة «التوطين» حتى الاعتبارات الأمنية. قد تكون بعض المبررات محقّة وصادقة. في النهاية كلها أسباب لنتيجة واحدة.
بمجرد خروج الفلسطينيين من غزة (عبر معبر رفح ثم مصر)، أو من الضفة (عبر جسر الكرامة ثم الأردن)، نبدأ اختبار معنى أن تحمل جواز سفر فلسطينياً. صحيحٌ أن جنسيات عربية كثيرة لا تحمل امتيازات تختلف عنا كثيراً. لكن «الباسبور» الفلسطيني الأكثر حصولاً على دبابيس ولواصق تشوّه شكله وتتلفه في أقل من سنة.
في كل المطارات والمعابر ودوائر الأمن، نشعر بأن الدنيا تستنفر مع لحظة رؤية «جواز سلطة». لا يستطيع أي موظف أن يخفي ارتباكه عندما يرى هذا الجواز. بعض الموظفات طلبن، ذات مرة، أن يأخذن «سيلفي» مع «جواز السلطة». آخرون كانوا يحملونه مع كثير مع التقزز، ما يجعلنا نحار في الشعور بالفخر أو بالعار منه.
في بلدة القاع اللبنانية، التي ضربها الإرهاب أخيراً، كانت لنا «علقة» عند دائرة الجمارك. كنا نريد تجاوز الحدود اللبنانية إلى «مشاريع القاع»، ما يعني العبور نوعاً ما إلى الحدود السورية المغلقة من الجهة الأخرى. يوجد بيننا "جواز سلطة ووثيقة لاجئ"، إذاً لا بد من الحصول على إذن خاص من الأمن العام. في لحظة ما، شعرنا بأننا نتحمل المسؤولية عن انتظار زملائنا لساعة في الشمس بسبب «دفاتر الملاحظات» التي نحملها.
كان لدى الضابط الذي أصر على توقيفنا رأي آخر: يجب أن تفرح، «لأنْ باسبورك بيوقّف الدولة ع رجل». لم أعلم هل كان يجب عليّ أن أفرح بهذه المعلومة أم لا؟ لعله وجب علينا أن نخبر ذلك الضابط «المثقف» عن معبر رفح. هناك حيث توقفنا دولة عربية شقيقة وصديقة مثل مصر، على أرجلنا لأيام، ثم لا نعبر الحدود... أو كيف يتوقف الأمل في قلوبنا بانتظار فتح المعبر أصلاً.

■ ■ ■


صارت قضية الحصول على جنسية أخرى «مشروعاً وطنياً» لدى فلسطينيين كثيرين. لعلها باتت أهم من الزواج والتعلّم والحصول على المال أحياناً! «باسبورك في جيبك أهم من كل شي»، نصيحة مللت سماعها. أخيراً، وجدت نفسي وقد وقعت في الفخ. صرت ــ كما عشرات الآلاف ــ أبحث عن الطرق الممكنة للحصول على جنسية، ونوعاً ما تحولت إلى خبير في «بازار» الجنسيات وقوانين الدول المستقبلة للاجئين.
باتت محفوظاتنا على الحواسيب وأجهزة الاتصال تحمل مواقع متخصصة بمعرفة عدد الدول الممكن الدخول إليها بكل جواز سفر. أحياناً، نتلقى مباركات من بعض الزملاء إذا تردد خبر عن أن دولة ما في أقاصي الدنيا، كأندونيسيا أو بوليفيا، صارت تسمح للفلسطينيين بالدخول إليها بلا تأشيرة!
علمتُ أخيراً أن الفلسطيني ــ السوري يحصل حالياً على إقامة دائمة (تمهّد للجنسية) أسرع من غيره، من السوريين أو حملة جواز السلطة الفلسطينية. خلال ستة أشهر يكون قد حصل الفلسطيني، الذي فرّ من مخيمات اللجوء في سوريا، على الإقامة. وخلال سنتين أو ثلاث على أطول تقدير يحصل على الجنسية. يشرح مهاجرون إلى هناك، قائلين إن المبرر القانوني لهذا التسهيل أن الفلسطيني ــ السوري فقد دولة اللجوء والوطن، لذلك هو أكثر أولوية من السوري الذي يملك وطناً قد يعود إليه، أو الفلسطيني ــ السلطة الذي يمكنه العودة إلى الضفة أو غزة، رغم ما يكتنف ذلك من صعوبات أحياناً.
رغم ذلك، لم تكتمل فرحة من حصلوا على جنسيات أجنبية حينما حاولوا زيارة القدس أو مدن فلسطين المحتلة عام 1948. عندما كانوا يصلون إلى مطار تل أبيب أو أي معبر حدودي يتحكم به الإسرائيليون، ويظهر أنه يحمل هوية فلسطينية صادرة عن السلطة، تنتهي فعالية الجواز الأجنبي، مهما تكن دولته. لا بد من تصريح إسرائيلي أمني خاص للدخول في هذه الحالة، وتنسيق مسبق مع السفارة التي يتبع لها، لأنك في نظر الاحتلال فلسطيني فقط.
كذلك خلال الحروب الماضية على غزة، بعدما ترسل التحذيرات عبر السفارات، لا قيمة للجواز الأجنبي. من اختار البقاء في غزة هو فلسطيني، ومستهدف دون أي اعتبار. أما الأجنبي الأصل، فإن لديه «أماكن آمنة» يتجه إليها في حال رفض الخضوع لـ«برامج الإخلاء». اللافت أن النساء الروسيات والأوكرانيات هنّ الأكثر صموداً وإصراراً على البقاء في القطاع من هذه الجنسيات.


■ ■ ■


ذات مرة، سألت مسؤولاً فلسطينياً في لبنان، «لماذا أنتم ضد هجرة الفلسطينيين ــ اللبنانيين، إلى أوروبا؟ هناك سيجدون حياة كريمة وقد يمكنهم زيارة فلسطين بجوازاتهم الأجنبية قبل أن يموتوا ولا يروا التحرير الذي تعدونهم به؟». كان الرد تقليدياً: «يجب أن تبقى هنا مخيمات حتى يبقى حق العودة، وحتى يكونوا أقرب إلى فلسطين عندما تحرر». يبدو أن شعبنا خالف توقعاته، لأن عدداً كبيراً منهم عادوا إلى لبنان بجنسياتهم* الجديدة ليحصلوا على حقوق التمليك والتوريث. لكنه بقي في داخله «ابن المخيم».
لعلّ في حصول اللاجئين خارج فلسطين على جنسيات أجنبية ما يبرره. ما ينطبق عليهم ليس بالضرورة أن يكون حال «حملة الهوية الخضراء». هؤلاء أيضاً يصابرون داخل فلسطين رغم كل ما يعانونه خلال السفر والتنقل، أو الرغبة في إتمام التعليم... أو مثلاً، إتمام الحب لفتاة عربية والزواج بها.
ذات مرة، غضب مني صديق يحمل وثيقة لجوء صادرة عن السلطات اللبنانية بعدما وصفت جواز السلطة بدفتر الملاحظات. قال لي: «ولى يا سلطة، احنا بـ 2016 وجوازنا مكتوب بخط الإيد». والأكثر صدمة عندما أخبرني أن من يحمل وثيقة اللجوء من مصر، لا يمكنه العودة إليها إلا بتأشيرة من السفارات المصرية. وقد لا يحصل عليها ويصير لاجئاً مرة أخرى.
كذلك أخبرني أن سفارات السلطة تمنح اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في أي مكان في العالم جواز سفر «للاستعمال الخارجي»، أي أنه مستند قانوني «فلسطيني» للسفر إلى أي مكان يمنحك تأشيرة دخول عدا فلسطين نفسها! هذا الجواز لا يحمل رقم تعريف «هوية خضراء»، لذلك لا تسمح الأردن أو مصر لحامله بالعبور إلى الضفة أو غزة، كما أن بعض دول الاستضافة، مثل لبنان، حينما تجد جواز «سفر فلسطيني خارجي» تخيّر حامله بين اعتماد هذا الجواز أو البقاء على وثيقة اللجوء. طبعاً في حال الذهاب إلى الخيار الأول، سيحتاج إلى إقامة ليبقى في لبنان!

■ ■ ■


مهما تكن قيمة جوازات سفرنا (العادي والدبلوماسي وللاستعمال الخارجي)، تبارى كل من رئيس السلطة، محمود عباس، ورئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية، في منح جوازات السلطة، كل يعطي من يهواه. عباس مثلاً تخصص بمنح هذا الجواز للفنانين وبعض المغنين العرب. أما هنية، فأعطى واحداً للشيخ يوسف القرضاوي، وآخر لخالد مشعل (رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»). بات الموضوع مجالاً للتندّر بين الناس، وخاصة أن هذا الجواز مروّس بأنه صدر بناء على اتفاقية الحكم الذاتي للسلطة، أي اتفاقية «السلام». كما أن هذا الجواز الفلسطيني، وإن حمل اللون الأحمر الدبلوماسي، سيبقى أقل شأناً من أي جواز عربي آخر، معنوياً أو قانونياً.

■ ■ ■


أسوأ وأصعب اختبار على الباحثين عن الجنسيات الأخرى، حينما طلب منهم التنازل عن جواز السلطة وأداء قسم الولاء للدولة الجديدة. كانوا يسألونني: هل تنازلنا عن جواز «أوسلو» المشروط إصداره باتفاق تسوية، هو فعلاً تنازل عن جنسيتنا الفلسطينية؟ ألا يبرّر تصرفنا أن فلسطينيين آخرين حملوا الجنسية الإسرائيلية جبراً، لكنهم كانوا فلسطينيين أكثر من غيرهم، بل منهم من قتل شهيداً على يد الجيش والشرطة الإسرائيلية؟ هل سعْينا عن قصد وعمد إلى جنسيات، كالبريطانية أو الأميركية، هو تنازل منّا عن ذواتنا وقضيتنا أمام دولة تسبّبت في نكبتنا وأخرى نقتل بسلاحها؟ أم أن العالم تغيّر وجبّ مجلس الأمن حقبة الحرب العالمية الثانية والاستعمار والانتداب؟
حتماً، لم ولن يكون لديّ أجوبة عن أسئلتهم. كنت أقول لهم إن «الضرورات تبيح المحظورات»، فيردون عليّ بالقول الشهير: «مكره أخاك لا بطلا». يبدو أننا لا يجب أن نصير مثاليين في الإنسانية والتجرد من فلسطينيتنا إلى حد أن نغني أغنية درويش، «فلتسقطوا عني جواز السفر». كل هذه المأساة بفصولها ستنتهي عندما نردد أغاني التحرير. في ذلك اليوم، عارٌ علينا إن لم نسمح لكل الأحرار بأن يزوروا فلسطين.

الجنسية التي فُرضت جبراً وسُحبت جبراً

قبل قدوم سلطة الحكم الذاتي (1994)، استيقظ أكثر من أربعة ملايين فلسطيني ذات صباح، ووجدوا أنفسهم وقد فرضت عليهم الجنسية الأردنية. أُخذ هذا القرار بحق سكان شرق وغرب نهر الأردن من دون أن يسألهم أحد هل يرغبون في ذلك أو لا، وفي مخالفة كبيرة للقانون الدولي. لكن المأساة لم تطل طويلاً، بل أنهتها مأساة أخرى. بعد قرار الانفصال الأحادي الذي اتخذه الأردن، تقرر سحب الجنسية المفروضة عن ثلث من فرضت عليهم تقريباً، وتحديداً من يقطن غرب النهر (الضفة الغربية المحتلة)!