الخرطوم | اتّسعت، أخيراً، رقعة الحرب المستمرّة في السودان، منذ تسعة أشهر، بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» (يقودها محمد حمدان دقلو - حميدتي)، لتشمل ولاية الجزيرة في وسط البلاد، جنباً إلى جنب ولايتَي الخرطوم ودارفور، ولا سيّما بعدما مهّد انسحاب الجيش من حاميته في مدينة ود مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، مطلع الشهر الحالي، الطريق أمام «الدعم» لوضع يدها على المدينة، واستباحتها منذ الساعات الأولى لدخولها إيّاها. وعلى الرغم من أنّ معظم أهالي ود مدني كانوا قد غادروها خوفاً من بطش «الدعم»، فإنّ الأخيرة لحقت بهم إلى المناطق التي فرّوا إليها، متوغّلةً في جميع قرى ولاية الجزيرة، ما تسبّب بحالة من الهلع لدى المواطنين العُزّل، الذين وجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة قوة متفلّتة، تسعى وراء الغنائم وتنتهك الأعراض، في أعقاب انسحاب جميع القوى النظامية، كالشرطة والأمن، من القرى والمدن كافة. وتسبّبت الأحداث الأخيرة بموجة جديدة من النزوح، علماً أن ولاية الجزيرة المتاخمة للخرطوم شكّلت الملجأ الأول للنازحين من الأخيرة، فيما تبدو الوجهة التالية أمام الفارين «مجهولة» حتى الآن، ولا سيما أنّه تمّ إغلاق جميع الطرق التي تربط الجزيرة بباقي الولايات الجنوبية. تزامناً مع ذلك، لا تزال العشرات من الأسر عالقة داخل ود مدني، إذ تعاني نقصاً حادّاً في المواد الغذائية والطبية، بعدما منعتها «الدعم» من مغادرتها. كما أجبرت الأخيرة الكثير من الأسر، التي كانت قد تمكّنت من الفرار، على العودة إلى المدينة. ويتّهم عدد من المراقبين قادة الجيش بالتسبب في سقوط ود مدني، نظراً إلى أن الأحداث الأخيرة وقعت وسط غياب لأي مقاومة من قواته، التي انسحبت جنوباً تاركةً أسلحتها خلفها، لتغنمها القوة المقتحمة. وتحت وطأة الضغط الشعبي، أصدرت القوات المسلحة، بعد يومين من سقوط المدينة، بياناً أمام الرأي العام، تقرّ فيه بانسحاب رئاسة الفرقة الأولى من ود مدني، مشيرةً إلى أنّ التحقيق جارٍ في الأسباب والملابسات التي أدت إلى الانسحاب.
وفي ظلّ إهمال دولي واضح للحرب الدائرة في السودان، رافقت سقوط تلك المدينة في أيدي «الدعم السريع» انتهاكات فظيعة ومستمرّة. إذ لا يزال الجنود المدججون بالسلاح يمارسون ترهيباً في جميع مناطق ولاية الجزيرة، وينهبونها تحت تهديد السلاح، فيما يبدو أنّ قادتهم عاجزون عن السيطرة على هذه الممارسات أو وضع حدّ لها. ويبرر بعض المحللين ذلك بأنّه تم حشد القوات المقاتلة في صفوف «الدعم»، بالدرجة الأولى، من جميع ولايات البلاد، عبر إغرائها بـ«الغنائم». وعليه، فهي «لا تقاتل من أجل قضية واضحة»، بل بهدف الاستفادة من المكاسب المحتملة، فيما تذهب بعض التحليلات إلى أن هزيمة تلك القوات ستحصل «من الداخل»، على أيدي عناصرها «المتفلّتة» نفسها.
على الضفة الأخرى، وفي مؤشّر بالغ الخطورة إلى ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع، أطلق سقوط مدينة ود مدني موجة تسلّح واسعة النطاق في أوساط المواطنين. إذ انتظم هؤلاء في حشود شعبية مسلحة في جميع الولايات التي لم تدخلها «الدعم» بعد، في شمال وجنوب وشرق البلاد، معلنين انطلاقة «المقاومة الشعبية»، الهادفة إلى التصدي للهجمات المحتملة من قِبل قوات حميدتي، وسط تخوّف شعبي من عجز الجيش عن حماية المواطنين. ووفقاً للتقديرات الميدانية، فإن التشكيلات الأهلية باتت «تتقدّم على الجيش»، الذي يطرح أداؤه علامات استفهام كثيرة، وتسود تقديرات أن قيادته العليا تتهرّب من الحسم بهدف إطلاق عملية تفاوضية، تضمن بقاء قائده، عبد الفتاح البرهان، في المشهد السياسي مستقبلاً. مع ذلك، يرى اللواء المتقاعد، أسامة محمد أحمد، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «تسليح الشعب هو بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح، نظراً إلى أن العدو واحد للشعب والجيش»، معتبراً أن «قوات الجيش لن تتمكن من ملاحقة العدو في كلّ حي وشارع، ولذا، فإن تسليح المواطنين سيُدعّم موقفها».
توازياً مع ذلك، تصدّر اللقاء الذي كان مزمعاً عقده أمس في جيبوتي، بين البرهان وحميدتي، المشهد السياسي، وسط تضارب كبير في المعطيات المحيطة به. وبعدما أُعلن أن اللقاء سينعقد برعاية منظمة «الإيغاد»، بهدف «التوصل إلى صيغة توافقية» تضع حداً للحرب المستمرة، أفادت وزارة الخارجية السودانية، الأربعاء، بأنها «تلقّت مذكرة من وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في جمهورية جيبوتي، تفيد بعدم تمكّن قائد (قوات الدعم السريع) المتمرّدة من الوصول إلى جيبوتي لعقد اللقاء، لأسباب فنية». وتأتي المذكرة الجيبوتية في وقت تلاحق فيه قائدَ «الدعم» إشاعات حول وضعه الصحي، تزعم أنّه تعرّض لـ«إصابة خطيرة» بداية الحرب، تمنعه من الظهور إلى العلن. من جهته، كان البرهان قد اشترط، لحضور اللقاء، خروج قوات حميدتي من ولاية الجزيرة، على أن يتمّ طرح قضيتَي انسحاب «الدعم» من مدينة ود مدني ووقف إطلاق النار «على طاولة المفاوضات». وبدوره، أشار مصدر في سكرتارية «الإيغاد»، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أنّ المنظمة «لم تتلقَّ أي معلومات، سواء من رئاستها أو من جيبوتي، حول مثل هذا اللقاء»، مضيفاً أن التسريبات الخاصة بلقاء الرجلَين «تخرج من الخرطوم»، فيما جميع العاملين في المنظمة هم حالياً «في إجازة نهاية العام».