الخرطوم | يسعى قادة الجيش السوداني إلى إحكام قبضتهم على أمر البلاد في مرحلة ما بعد الحرب، وإبعاد القوى المدنية عن دائرة الحكم، وذلك عبر جعل السلطة في يد «المقاومة الشعبية» على المستوى القاعدي، علماً أن الأخيرة تعمل منذ تكوينها تحت مظلة القوات المسلحة. وفي السياق، وجّه مساعد القائد الأعلى للجيش، الفريق ياسر العطا، «المقاومة الشعبية» بانتخاب لجان من بينها، لتكوين برلمانات ولائية وقومية تتولى مهمّة اختيار رئيس الوزراء وولاة الولايات، ثم بعد ذلك «اجلسوا مع الرئيس ونائبه، وقولوا له هذا مرشحنا لرئاسة الوزراء، عيّنه لنا، وهؤلاء مرشحونا لقائمة الوزارة» كما قال، مضيفاً أن «البرلمان الولائي يرشح والياً يدفع به إلى الرئيس لاعتماده، وبعدها يعين الوالي حكومته بالمشورة مع البرلمان الولائي». وتابع: «أليس هؤلاء مدنيين وأليست هذه انتخابات ديموقراطية؟ إذاً أين تكمن المشكلة؟». أيضاً، توجّه العطا في خطابه إلى «قوى الحرية والتغيير»، قائلاً إنه في حال رفض هؤلاء لمقترح الجيش، فإن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وكل الدول الخارجية «لن تجد لكم حلاً آخر»، مشيراً إلى أن «الحل لدى الشعب السوداني الذي اتخذ قراره وفوّض الجيش الذي يقوم بتنفيذ تعليماته»، بحسب تعبيره. ويتضح من تصور الجيش لكيفية الحكم في المرحلة المقبلة، أن المؤسسة العسكرية احتفظت لنفسها بصلاحيات الحاكم، إذ يقصد العطا بكلمة «الرئيس» التي أوردها في خطابه، القائد الأعلى للجيش، عبد الفتاح البرهان. وفي السياق، يرى مراقبون أن تطبيق هذا التصور يعني «عودة نظام الإسلاميين مرة أخرى إلى السلطة، عبر بوابة المقاومة الشعبية التي تتكوّن غالبية عضويتها من شباب الإسلاميين الذين استنفروا منذ اندلاع الحرب، خلف القوات المسلحة للتصدي لقوات الدعم السريع»، علماً أن «قيادات إسلامية معروفة تشرف على معسكرات تدريب هؤلاء». ويلفت المحلل السياسي، حاج حمد، إلى أن قادة الجيش سارعوا إلى تطبيق التصور المذكور «على خلفية الأزمة التي يمرّون بها منذ انقلاب أكتوبر 2021 على الحكومة المدنية؛ إذ جرت العادة أن الانقلابات العسكرية تكون لديها حاضنة مدنية لتشكيل الحكومة»، مشيراً إلى أن «حالة الانقسام التي أحدثتها ثورة ديسمبر عملت على تشتيت الكتلة الإسلامية التي أصبحت موضع تهمة، وبالتالي لا يستطيع الجيش الاستفادة منها، بشكلها التقليدي، كحاضنة مرة أخرى». ويضيف حمد، في حديثه إلى «الأخبار»، أنه «في الوقت نفسه، ارتكب الدعم السريع أخطاء عندما حاصر المدن، كونه لم يدرك أن محاصرته هذه وانتهاكاته ستضعه في عزلة شعبية»، مستدركاً بأن «الأزمة الحقيقة تمثّلت في أن طرفَي الصراع غير مؤهّليْن لعمل حاضنة مدنية».
يبدو أن العسكر يسعون إلى إنتاج السيناريو نفسه الذي أعقب الانقلاب على حكومة حمدوك


والجدير ذكره، هنا، أن القوى المدنية في ائتلاف «الحرية والتغيير» وجدت نفسها، منذ اندلاع الحرب، في موضع الاتهام لدى الشارع العام الذي بات يرى أنها المتسبب الرئيسي في الحرب عبر تمسكها بـ«الاتفاق الإطاري» الذي وقّعته مع العسكريين، وأورد بنوداً تشمل «إصلاح المؤسسة العسكرية». وفي المقابل، نجح الإسلاميون في تعبئة الشارع العام على قاعدة أن «الحرية والتغيير» هي الجناح السياسي لـ«الدعم السريع»، ولا سيما أن القوى المدنية لم تُدِن انتهاكات تلك القوات بشكل صريح طيلة فترة الحرب، بل تساوي دائماً بين ما ترتكبه الأخيرة في حق المدنيين، وما ترتكبه قوات الجيش، الأمر الذي أضعف دورها في إيقاف الحرب، رغم جهودها السياسية التي تحظى بالدعم الدولي والإقليمي. وفي هذا الإطار، يعزو حمد ضعف تأثير «الحرية والتغيير» إلى «حالة الانقسام العميق التي أصابتها بين قوى الثورة ممثّلة في لجان المقاومة والقوى السياسية التي ينظر إليها على أنها اختطفت الثورة». ويضيف أن «الجهات الدولية الراعية للأزمة في السودان تفاجأت من مستوى الصراع العسكري بين الطرفين، بحيث أصبحت لا تستطيع إعادتهما إلى طاولة التفاوض»، مشيراً إلى أنه «كان لا بد من وجود قوى مدنية، بعد اشتداد الأزمة ووصولها إلى مرحلة التعقيد، لكن هذا المقترح أيضاً واجهته حالة الانقسام العميق لدى الحرية والتغيير».
هكذا، يبدو أن العسكر يسعون إلى إنتاج السيناريو نفسه الذي أعقب الانقلاب على حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فيما خرجت أخيراً تسريبات تتحدّث عن تشكيل حكومة جديدة لإدارة الفترة الانتقالية التي تسبق قيام الانتخابات، يرأسها البرهان. وفي هذا السياق، استقبل الأخير، خلال الفترة الماضية، مجموعة من الكتل السياسية التي اعتادت العمل عند الطلب كظل للعسكريين، فيما «وجود العسكريين في السلطة دائماً يرتبط بوجود قوى سياسية مدنية انتهازية لديها دائماً الرغبة في السلطة»، حسبما يقول حمد.
وفي الوقت الذي يلهث فيه العسكريون خلف تثبيت دعائم حكمهم، تدخل الحرب شهرها الثاني عشر، ويدخل معها 25 مليون سوداني في دائرة الحاجة العاجلة إلى المساعدات الإنسانية، إذ يعاني 18 مليوناً من هؤلاء، من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وفقاً لتقارير المنظمات الأممية التي تجد صعوبة في إيصال المساعدات، وخاصة في مناطق سيطرة «الدعم السريع». وفي هذا الإطار، أعلن حاكم إقليم دارفور رئيس «حركة تحرير السودان»، مني مناوي، عن توصله إلى اتفاق مع وكالات الأمم المتحدة ومنظمات دولية لفتح مسارات تمر عبرها المساعدات الإنسانية من بورتسودان إلى المتأثّرين بالصراع في دارفور، وذلك مروراً بالولاية الشمالية منطقة الدبة، ومنها إلى مدينة الفاشر وبقية أنحاء الإقليم. وفي المقابل، أعلنت «الدعم السريع»، في بيان، أن الاتفاق المذكور «لا يعنيها»، مشيرة إلى أنها لن تسمح بأن يتم اتخاذ المساعدات الإنسانية ذريعة لإمداد ما سمّتها بـ«كتائب النظام السابق»، بالسلاح، وذلك عقب تلقّي «معلومات تفيد بمحاولات إدخال أسلحة وذخائر إلى مدينة الفاشر حاضرة شمال دارفور»، وفقاً للبيان.