هذه المرحلة من تاريخ الأزمة في اليمن اسمها «جمال بن عمر» أو الإشراف الدولي ـ الإقليمي على صراع الأخوة. فالذين يلعنون التدخل الأجنبي ليلاً ونهاراً، يستضيفونه في صعدة، والذين ينادون بالسيادة الوطنية، يدعونه إلى صنعاء.
فشل اليمن رسمياً، حكومةً ورئيساً وأحزاباً وتيارات دينية، في حلّ مشاكلهم العالقة. تبادلوا الاتهامات بالدعم الخارجي، وبالتخطيط لتقسيم اليمن، واستغلال الناس. وبعد مأدبة الاتهامات تلك، هرعوا إلى ما تحت الطاولات يعقدون الصفقات.
صفقات هذه المرحلة ليست محلية فقط، فكل من له حاجة في اليمن، اسمه موجود على أوراق الطاولة، وما تحتها. الاتفاقات العلنية والسرّية تتجاذبها أطراف الأزمة، فيما ينظّر المثقفون السذّج لـ«نصير الفقراء» الذي جاء من صعدة، لنصرة ثلثي سكان اليمن ممن يطحنهم الفقر. ووحدهم الفقراء يقذف بهم من فوق سلّم الأولويات، حين يؤذّن لوقت التفاوض على المكاسب.
السعودية لها شروط يحفظها المفاوض الدولي عن ظهر قلب، رغم علاقته السيئة بالمملكة، إلا أنه المشرف على تنفيذ مبادرتها الخليجية في اليمن. تريد المملكة أمراً عاجلاً في اليمن، وهو إبقاء المبادرة الخليجية كمرجع. لا مشكلة لديها في الفوضى أو في الثورة أو الصراع على كل شيء، على سيادة الدولة على شركاء التقاسم، على ما بقي من الاقتصاد والدولة. لكن المهم بالنسبة إليها، ألّا تُنقض الاتفاقية التي وقعت في الرياض. يجب أن تبقى الرياض العاصمة السياسية لليمن، حتى لو وصل الحوثيون إلى صنعاء.
سيحاول جمال بن عمر كسفير شخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى صنعاء، الإبقاء على «المبادرة حيّة»، مع أنه في كثير من مناطق الصراع فشل في الإبقاء على صيغة المُحايد، وتورط «بجدارة» باستلاب دور طرف دون آخر، ما جعله خصماً شخصياً للرئيس السابق علي عبد الله صالح مثلاً، ومن خلفه السعودية. فيما أطلقت عليه الصحافة اليمنية لقب «شيخ مشائخ اليمن»، في دلالة على دوره المحلّي المؤثر.
لكن هذا لا ينفي أنه يحتفظ أيضاً في جيوب معطفه بورقة طوتها الولايات المتحدة، وهي توقّع اتفاقياتها الأمنية منذ سنوات مع اليمن. إذ إن أميركا يهمّها جداً بقاء الوضع الملتهب بعيداً عن خريطتها العسكرية، لذلك هي أعلنت أنها مستعدة للتفاوض مع الحوثيين، وهي تفعل ذلك فعلياً، بواسطة المبعوث الأممي، ليبدو أمر الأزمة أنه جزئية عالقة بين أميركا وصعدة.
واشنطن قلقة على مستعمرتها اليمنية، وهي لا تريد لسُبحتها أن تنفرط. فاليمن على قائمة الدول التي تحارب بها أميركا «الإرهاب». وأي انفراط سيشوّش على خططها العسكرية، وخصوصاً أن القواعد العسكرية الأميركية في اليمن ـ وإن كانت بعيدة عن مناطق النزاع ـ هي من أهم المصالح الأميركية في المنطقة. قاعدة العند الجوية في الجنوب قرب عدن، الجزيرة العسكرية العائمة في البحر الأحمر على مدخل باب المندب بين اليمن وجيبوتي، وفرق التدريب العسكري في صنعاء، من دون أن ننسى فرق الكوماندوز التي تحتل أحد الجبال المسلحة حول صنعاء المطلّة على السفارة الأميركية، وخطط التدريب التي ترسمها للجيش اليمني الذي تشرف عليه لمحاربة «الأرهاب».
لذلك، «فليصل الحوثيون إلى أي مكان»، لكن ليس إلى المناطق الأميركية «المحرمة» في اليمن، مثل باب المندب، والجنوب.
إيران أيضاً لديها ما تقوله وسط غبار المعارك والمفاوضات المتعثّرة. لديها قائمة بأسماء المتهمين المحتجزين في صنعاء من «الحرس الثوري» الذين قُبض عليهم بتهمة التجسّس، وتهريب أسلحة إلى اليمن. وقالها الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي بثقةِ رجل يحكم بلداً منهاراً، أن إيران «تبتزه» بهؤلاء، إما أن يطلق سراحهم أو ستحتلّ العاصمة من طريق الحوثيين. هذا كلّ ما يفعله الرئيس اليمني أخيراً، يرفع سبابته ويهدّد إيران، ثم يوكل أمر حلّ الأزمة إلى مشرف الأمم المتحدة والولايات المتحدة والسعودية.
فشل اليمن رسمياً، حكومةً ورئيساً وأحزاباً وتيارات دينية، في حلّ مشاكلهم العالقة
السيناريو اليمني مكتوب بحبكة تجعل من كل الخيوط متشابكة، ومن كل الاطراف متورطة. وفي الداخل، ينتصر جزء من مثقفي اليسار للحركة الريفية الفتية، بوصفها مفجّرة «ثورة الضعفاء»، مصدّقين أن الحوثيين يطلقون النار ويشعلون الحروب من أجل خفض سعر البنزين! أو أنهم يريدون أن يتوهموا ذلك، انطلاقاً من العداء التاريخي بين بعض مثقفي اليسار والإخوان المسلمين (حزب الإصلاح)، وهو ما اضطر الحزب الاشتراكي اليمني إلى إصدار بيان يوضح فيه «موقفه المحايد غير المنخرط مع أي طرف، وأن أي رأي يأتي من مثقف يساري يمدح تلك الحركة أو يذمّها لا يعبّر بالضرورة عن رأي الحزب الاشتراكي غير المسؤول عن الآراء الواردة في قاعدته الشعبية، الساخطة عليه وعلى موقفه السلبي».
إنها الفوضى السياسية كما يراد لها أن تكون. لقد آن الأوان لكلّ من له خصم، للانتقام منه، والتهم جاهزة، ومتنوعة، مناطقية وطائفية، ما يجعل الأمر مقيتاً. ووسط رائحة العفن السياسي، يغيب دور الأحزاب تماماً، وتظهر فقط الميليشيات المسلحة، تصفّي حساباتها بطريقتها، بعيداً عن ضجة المثقفين والسياسيين.
نار الانتقام وصلت إلى حدّ التصفيات داخل الجيش، فالأجنحة المتصارعة على الجيش اليمني، وجدتها فرصةً لتخلّص بعضها من بعض، بحجة محاربة الحوثيين. جناح علي عبد الله صالح، وجناح الرئيس هادي، وجناح علي محسن الأحمر. قائمة الاغتيال تستهدف وحدة الجيش وتماسكه، وموقعه كجيش يمني، فما يحدث هو تسهيل لكل طرف لاقتحام معسكرات خصمه والاستيلاء عليها وقتل الجنود، ومن يقتلون هم من صغار المجندين والضباط، من عامة الناس الذين يتشدّق بهم عبد الملك الحوثي، ويحكم باسمهم حزب «الإصلاح» الإسلامي منذ عام 2011.
لقد كانت طريقة «الإصلاح» في السياسية خلال العقد الأخير، حافلة بموائد الدم ـ وإن كانت هي مرحلة إنهاء الإصلاح من الخريطة أو خروجه ضعيفاً ـ فإنه لن يخرج إلا بحفل وداع دموي.
ويبقى الأكثر دموية، أن المرحلة هي مرحلة تقسيم اليمن، وليس فقط الكعكة اليمنية. تقسيم بين قوى قديمة وأخرى وافدة، يزيد الخسائر، وإن كان قرار رفع سعر البنزين جاء بعد سلسلة حروب أهلية مدمرة للاقتصاد، فإنه باسم خفض التعرفة الحالية تُشن حربٌ جديدة، وهذه المرة في العاصمة.
لم تعد الحروب في أطراف الجبال وعمق الوديان والصحارى. إنها تحت أذن القصر الرئاسي، حيث يقيم عبد ربه منصور هادي ويطلق تهديده لإيران. هذه المرة، الحرب محاذية للمعسكرات التي يتوافد عليها جنود من كل المناطق اليمنية، إنها تحت المنشآت الحيوية كمحطات الكهرباء والوزارات السيادية كالداخلية. لقد انتهى عصر حكم «الإصلاح» وشركائه للعاصمة، كما أنهوا قبل ثلاث سنوات، عصر حكم «حزب المؤتمر وحلفائه» حزب علي عبد الله صالح. وبعد «مقدّمات» عدة، بدأت مرحلة الحرب في العاصمة التي كانت تنأى بنفسها بعيداً عن كل الحروب التي تخطط لها في ربوع اليمن.
لقد فشل الإسلاميون في اليمن. أوصل فسادهم وغرورهم السياسي حركة جبلية مسلحة إلى صنعاء. لقد أوصل حزب «الإصلاح الإسلامي اليمن إلى موقع الحرب، حين مهّد للحوثيين كل هذا التقدم، تماماً كما فعل صالح بفساده لتمهيد الحكم لـ«الاصلاح»، وشيوخه من قبليين وسلفيين، لكن الملاحظ أن آخر ظهور للشيخ الإصلاحي الشهير حميد الأحمر كان في أحد مطارات تركيا، خالعاً بزته القبلية مرتدياً «الجينز»، متخففاً من حمله الإسلامي، بعدما أوصل اليمن إلى كلّ هذا الدمار كأحد أمراء الحروب والفساد.
وإن كان الأحمر قد ترك اليمن، فإن جمال بن عمر قدم إليها، مشمّراً عن ساعده، ومتحدثاً باسم الدول العشر، الراعية للمبادرة، لكن هذه المرة هناك لاعب جديد يفرض نفسه بقوة، إنها إيران التي تعرف ماذا تفعل، لذلك فاليمن يرحّب بها على طاولة الخيبة السياسية اليمنية، ويدشّن مرحلة اليمن في حكم «الدول العشر + واحد».