تعرّفت إلى القائد الفلسطيني الراحل أبو موسى في جنوب لبنان عام 1974 عندما كنتُ متفرغاً وقتها في مكتب العلاقات الخارجية لحركة فتح. أذكر أنني كُلّفت بمرافقة مندوب وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) والذي حضر من الصين لإجراء لقاء مع القيادي الفلسطيني حول العدوان الصهيوني المتكرر على جنوب لبنان.
كنت قد سمعت الكثير عن الراحل، لكن لم تسنح لي فرصة اللقاء به، حيث كان الاتصال بين الكوادر السياسية والقيادات العسكرية أمراً تحاربه قيادة فتح لأسباب بديهية.
عندما وصلت برفقة مندوب «شينخوا» إلى مقر أبو موسى في صور، وكانت المرة الأولى التي أصل فيها إلى تلك المنطقة، دخلنا مكتبه الذي كان في غاية التواضع؛ بضعة كراس خشبية ومكتب في غرفة جدرانها عارية، وحوله بعض رجال «العاصفة».
أحسست بأني أدخل مقر قائد مناضل، فشعرت بالخجل من الأبهة والفخامة التي نعيشها في مكاتبنا (الثورية) في بيروت. ورغم التواضع الحقيقي للراحل الكبير، يشعر المرء بمهابة حضوره. كان صيته العسكري والخلقي قد انتشر بين كل أعضاء حركة فتح والساحة الفلسطينية. استقبلنا وفق الموعد، من دون التأخير البديهي الذي يتخفى وراءه أشباه الزعامات الذين وصلوا إلى مواقعهم بسبب ولائهم الشخصي المطلق للقيادة.
تناولنا كوب شاي ثم سألني عما يريده «الرفيق». طلبت من المندوب الصيني طرح الأسئلة علي كي أترجمها للراحل، وهذا ما فعله. كانت الأسئلة عن تاريخ أبو موسى النضالي ووضع القوات الفلسطينية في جنوب لبنان وما إلى ذلك من العموميات المعروفة.
فكّر الراحل قليلاً ثم ارتسمت على محياه ابتسامته الهادئة العذبة وقال: «شوف، أقترح أن تعود معه إلى بيروت، بعد جولة في بعض القواعد، واحكِ له أنت ما شئت، أو قل للإخوة (السياسيين) في بيروت أن يحدّثوه في ما رغب. أنا لا أعرف الكلام ولا أجيده. أنا مقاتل من أجل فلسطين والكلام اتركه لمن يجيدونه».
ليس مهماً ما حصل بعد ذلك، وإنما الانطباع الذي خلفه ذلك اللقاء الأول مع القائد العسكري الأسطوري، والذي كان تأثيره في قوات العاصفة أقوى من أي شخص آخر. الانضباط الذاتي الشديد الذي كان يمارسه، مضافاً إلى تواضعه ومقدراته العسكرية، جعل منه أسطورة حقيقية تخيف القيادة السياسية في بيروت، التي كانت تخشى تمتع أي عضو بشعبية في الحركة، فكيف بقائد عسكري ثبت في مواجهات عديدة مع العدو الصهيوني وكان مقيماً دوماً بين القوات، وفي المعركة على رأسها. لم يعرف الملاجئ ولا السيارات المصفحة.
شعبيته بين القوات كانت أسطورية، لذا عندما اندلع الانشقاق في حركة فتح عام 1983، كان انضمام أبو موسى له العامل الحاسم، ولربما نقول الوحيد، الذي جعل القسم الأعظم من قوات العاصفة تنضم وتعلن ولاءها له. القيادة الفلسطينية وقتها كانت على علم بنيّة التمرد الذي كانت خيوطه تُرسم إبان حصار العدو الصهيوني بيروت عام 1982 فحاولت المستحيل لإقناعه بعدم الانضمام، لكن من دون أي نتيجة.
شعبيته انتشرت بين أبناء جنوب لبنان أيضاً، حيث كانت تجاوزات (زعران) القيادة هناك تجاههم تشكل حاضنة معادية للوجود الفلسطيني.
أبو موسى، قائد قوات العاصفة في جنوب لبنان، لم يكن بمقدوره منع (المتجاوزين) بسبب ارتباطهم المباشر بالقيادة أو بآخرين من كبار الفاسدين في فتح.
الحق أن أبو موسى كان يمنع، ما استطاع، تلك التعديات على البشر والحسينـيات وغيرها، إلا أن مجال تأثيره كان محدوداً. كما أنه لم يتمكن من منع عمليات النهب الواسعة النطاق التـي جرت في الدامور والجية عقب طرد قوات الكتائب منها، والتـي أتت رداً على تدمير مخيم تل الزعتر والتطهير العرقي الذي أعقبه، والجرائم التـي ارتكبتها القوات المهاجمة بحق أهله من المدنيين، وخصوصاً بحق النساء والفتيات.
لاحقاً، تعرفت إلى أبو موسى على نحو أقرب، وكان لي شرف لقائه المتكرر في الجنوب عندما كنت أرافق وفوداً أجنبية إلى المنطقة، حيث كنا نلتقيه صدفة في القواعد برفقة قادة عسكريين أبطال أذكر منهم العقيد أبو جبر والرائد واصف عريقات (أبو رعد) وغيرهما.
بعد محاولة اغتياله في الجنوب، حضر إلى برلين (الشرقية) لتلقي العلاج، وكنت وقتها مقيماً هناك أكمل دراستي العليا. كان لي شرف مرافقته طوال الفترة التي قضاها، بل وحتى مرافقته مع الأخ الكبير أبو نائل (عبد الفتاح القلقيلي) في أول تجول سيراً على الأقدام في حديقة المستشفى بعد العمليات العديدة التي خضع لها.
أبو موسى لم يكن قائداً عادياً، مع أن فلسطين ولّادة، أنجبت أبطالاً كثراً، تشاء المرحلة التي نعيشها إهمالهم وتزوير التاريخ لصالح روايات كاذبة عن أبطال مزعومين، نعرف جميعنا أنهم لم يجيدوا سوى الكتابة والخطابة والاستعراض الفارغ والولاء الذيلي لمن عينهم في مواقعهم، أو استحالة فرارهم من أرض المعركة. غزوات تُدرّس في الأكاديميات العسكرية في مختلف بقاع العالم. لكننا الشهود على ذلك العصر وشعبنا يعرف كيف يكتب تاريخه في نهاية المطاف.
أخي العزيز موسى، والدك القائد الكبير أبو موسى حفر بتواضعه الطبيعي وقدراته العسكرية الفذة التي وحّدت مقاتلي العاصفة حوله، مع أنه انضم إلى فتح بعد مجازر أيلول عام 1970/1971 حيث ترك الجيش الأردني ليكون إلى جانب شعبه وحركته الوطنية، مكاناً ريادياً في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، سيبقى لكل من اختار طريق النضال الوطني لتحرير فلسطين منارة لا ينطفئ وهجها.