تونس | هزّت جريمة اغتيال القيادي الناشط في الجبهة الشعبية التونسية (ائتلاف لاحزاب يسارية راديكالية) شكري بلعيد، الشارع التونسي، وخاصة النخبة السياسية والثقافية، وطرحت أكثر من سؤال عن مستقبل الانتقال الديموقراطي في بلاد التي فتحت أبواب الحرية لتجد نفسها بعد عامين فقط في مواجهة المجهول والرصاص ومسدسات كاتمة للحياة.
الصدمة التي يعيشها الشارع التونسي اليوم ليست نتيجة صدمة الاغتيال فقط، بل لطبيعة التونسيين الذين لم يعرفوا الاغتيال في حياتهم السياسية. ففي تاريخ تونس لم تُسجّل إلا حادثة اغتيال واحدة ذهب ضحيتها الزعيم الوطني صالح بن يوسف. وظلت هذه الجريمة فضيحة في الحياة التونسية إلى اليوم؛ إذ لم ينس التونسيون ذلك. أما الحادثة الثانية فكانت في شهر تشرين الأول الماضي عندما اغتالت مجموعة من رابطة حماية الثورة، المنسق العام لحزب حركة نداء تونس، لطفي نقض. وصول تونس إلى مربع الدم كان منتظراً، وقد حذّرت أغلب الأحزاب والمنظمات من خطورة تراكم مستوى العنف الذي يمارسه السلفيون ومجموعات «رابطة حماية الثورة»، وهو ما خلق بيئة مناسبة للاغتيال السياسي. لذلك حمّل زعماء الأحزاب السياسية الحكومة وحركة النهضة المسؤولية السياسية عن اغتيال بلعيد.
رئيس الحكومة وأمين عام حركة «النهضة»، حمادي الجبالي، سارع بدوره إلى الاعلان أنّه سيشكل حكومة مصغرة «كفاءات وطنية لا تنتمي إلى أي حزب». ولفت إلى أنّ مهمتها ستكون «محدودة» في الزمن، وتتمثل في «تسيير شؤون الدولة والبلاد إلى حين اجراء انتخابات سريعة». ودعا الجبالي رئيس المجلس الوطني مصطفى بن جعفر إلى «أن يحدد لنا تاريخاً واضحاً، وفي أقرب وقت، لاجراء الانتخابات». ولفت إلى أنّه «لم يستشر» عند اتخاذ هذا الموقف «لا أحزاباً حاكمة ولا معارضة».
وقبل ساعات من اغتياله، أكد الأمين العام لحزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد أن دفاع مجلس شورى النهضة في اجتماعه الأخير عن قتلة نقض، يعني أن الحركة أعطت الضوء الأخضر لبدء التصفيات الجسدية. وهو البيان الذي استغربته كل القوى الديموقراطية، فيما رأى عدد من المحللين أن اغتيال بلعيد هو رسالة إنذار لكل المعارضين، ولم يستبعد آخرون ضلوع جهات خارجية.
الاغتيال الذي استهدف بلعيد، هو النتيجة الطبيعية للثقافة السائدة منذ صعود «النهضة» إلى الحكم باعتبارها حركة إسلامية تواجه مؤامرات الأعداء من الشيوعيين والعلمانيين وبقايا النظام السابق. وهو الخطاب الذي يروّجه قادتها وخاصة الأئمة في المساجد. وقد غذّت «هذه الثقافة» روح التشدد والانتقام ممن يمكن اعتبارهم «ملحدين» و«متآمرين»، وبالتالي فإن البيئة التي توافرت هي التي كانت وراء الاغتيال، بغض النظر عن اسم المجرم.
ولذلك فإن مسؤولية الحكومة وحركة النهضة في هذا المستوى ثابتة؛ تراخت وزارة الداخلية في تتبع الذين اعتدوا على الناشطين ومقارّ الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الإعلامية، التي لم يسلم منها حتى نائب رئيس حركة النهضة عبدالفتاح مورو، ولا زعيم الحزب الجمهوري نجيب الشابي، ولا أعضاء الجمعية التأسيسية ولا بعض الصحافيين ممن واجهوا قمع زين العابدين بن علي. كما لم تفعل شيئاً في تتبع رابطات حماية الثورة التي تدعو إلى العنف وتمارسه علناً من دون عقاب. ومع ذلك تدافع حركة النهضة وحزب المؤتمر عن هذه الرابطات.
وأثار اغتيال بلعيد الكثير من الفزع في الشارع؛ فبعد الأخبار المتتالية عن اكتشاف قطع سلاح وأزياء أمنية، تعاظم الخوف من أن تكون هذه الجريمة بداية لبننة تونس، فيما اندلعت اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين الغاضبين والشرطة في عدد من المناطق التونسية. وأقام المتظاهرون متاريس في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي وسط العاصمة، ومنعوا الشرطة من التقدم وهاجموها بالحجارة قبل أن تصل تعزيزات أمنية وتفرقهم باستعمال مكثف لقنابل الغاز المسيل للدموع، حسبما أفاد مراسل «فرانس برس».
وأضاف المصدر نفسه أن المتظاهرين أغلقوا الطريق أمام سيارات الأمن بحواجز حديدية وبقطع كبيرة من الحجارة وبصناديق القمامة المشتعلة وهاجموها بوابل من الحجارة، بينما كانوا يرددون هتافات تطالب بـ«الثورة من جديد».
وفي ولاية سيدي أبو زيد، مهد الثورة التونسية، أطلقت الشرطة قنابل الغاز لتفريق متظاهرين هاجموا مقر مديرية الأمن في المدينة، بينما اقتحم متظاهرون مقر حركة النهضة في مزونة من الولاية وأخرجوا محتوياته وأحرقوها، وأحرق آخرون مقري الحركة في قفصة والكاف. واعلنت وزارة الداخلية، ليل أمس، عن مقتل عنصر أمن في المواجهات بالعاصمة تونس.
من ناحيته، قال عبد المجيد بلعيد لوكالة «فرانس برس»: «جرى اغتيال شقيقي. إنني منهار»، متهماً الغنوشي بالوقوف وراء قتله. وقال: «تباً لكل حركة النهضة». وقالت زوجة المغدور بسمة خلفاوي التي تلطخت ملابسها بالدماء، في المستشفى، إن «زوجي (بلعيد) تلقى تهديدات عدة مرات وأطلق تحذيرات بلا جدوى. كان الرد أن عليه تحمل مسؤولية كونه معارضاً للنهضة».
في هذا الوقت، نظّمت الأحزاب الأساسية في المعارضة؛ الجبهة الشعبية والحزب الجمهوري والمسار الديموقراطي ونداء تونس وحزب العمل الوطني الديموقراطي والحزب الاشتراكي، لقاءً عاجلاً قررت بموجبه تعليق عضوية كل أعضائها في الجمعية التأسيسية والمطالبة باستقالة الحكومة وتنظيم جنازة وطنية وإضراب عام يوم الجنازة اليوم، قبل أن يُعلن إرجاء الإضراب والجنازة إلى يوم غد الجمعة.
من جهته، حمّل حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد، حركة النهضة والحكومة المسؤولية عن الاغتيال. وقال عضو الجمعية التأسيسية عن الوطنيين الديموقراطيين، المنجي الرحوي، إن حركة النهضة مسؤولة مباشرة عن اغتيال الأمين العام. كذلك حمّل وزير الداخلية علي العريض، المسؤولية السياسية عن هذه الجريمة. واتهم المتحدث الرسمي باسم حزب المسار الديموقراطي الاجتماعي، حركة النهضة وزعيمها تحديداً بالاغتيال. ودعا إلى تتبعه عدلياً. وهو الاتهام نفسه الذي وجهه القيادي في الجبهة الشعبية أحمد الصديق.
في المقابل، رأى زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، أن اغتيال بلعيد عملية إرهابية مدبرة وطالب بإعلان الحداد الوطني وحمّل مسؤولية الاغتيال لـ«أعداء الثورة والديموقراطية» الذين لا يريدون الخير لتونس ولا لمسارها الديموقراطي.
بدوره، أدان رئيس الحكومة، الأمين العام للنهضة، حمادي الجبالي، الاغتيال وعدّه «اغتيالاً لتونس وللأمل في الحرية والديموقراطية». وقال، لإذاعة «موزاييك اف ام الخاصة»، إن رجلاً يرتدي «قشابية» (معطف تقليدي تونسي) أطلق «عن قرب» ثلاث رصاصات على بلعيد (48 عاماً). وطالب بتسريع البحث الأمني للكشف عن الجناة، محذّراً من توجيه الاتهام إلى أي جهة قبل أن تنتهي التحريات الأمنية.
من جهته، أوضح وزير الداخلية علي العريض نقلاً عن سائق سيارة بلعيد، أن شريكاً كان ينتظر القاتل وهربا معاً على متن دراجة نارية. وأكد أن المصالح الأمنية تعمل على كشف الجناة في أقرب وقت ممكن.
أما رئيس الجمهورية محمد المنصف المرزوقي، فقد قطع زيارته للوكسمبورغ وعاد مسرعاً إلى تونس، في الوقت الذي كان من المفروض أن يتوجه فيه إلى القاهرة لحضور القمة الإسلامية. ودعت رئاسة الجمهورية في بيان «الشعب التونسي إلى اليقظة والحذر من الفتنة التي تسعى بعض الأطراف إلى جر البلاد إليها».

http://www.facebook.com/photo.php?v=413279928757705