تونس | في محافظة جندوبة على الحدود الجزائرية التونسية، والتي تُعتبر أكثر المحافظات تهميشاً وفقراً، كرّر عادل الخضري أمس تجربة محمد البوعزيزي، التي اشعلت الثورة وأدت الى خلع زين العابدين بن علي عن السلطة. هو شاب توفي والده منذ أربع سنوات وترك له أربعة أشقاء عمل على توفير الحياة الكريمة لهم من خلال المهن الهامشية مثل بيع السجائر في شوارع العاصمة، مثلما يفعل مئات بل آلاف الشباب الوافدين من المناطق الداخلية الى العاصمة تونس. ويبدو أن الخضري تعرض الى مضايقات من الشرطة البلدية (السيناريو المعتاد منذ حكم بن علي)، فاختار في لحظة يأس إضرام النار في نفسه بعد أن صرخ، حسبما ذكر شهود عيان، «هذا مصير الشباب العاطل هذا مصير باعة السجائر». واختار مدارج المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة لتكون مسرحاً لهذه الحادثة المؤلمة التي تزامنت مع عرض الحكومة الجديدة على المجلس التأسيسي لنيل الثقة ظهر أمس.
إلا أن قوات الشرطة والحماية المدنية سارعت الى محاولة إنقاذه، بينما اعتبر عدد كبير من المراقبين هذا العمل رسالة ضمنية أرادها هذا الشباب للاحتجاج على الحكومة الثانية لحركة النهضة التي فشلت في تحقيق أي مؤشرات تنموية للشعب الذي يلتهمه اليأس والإحباط.
بعد عامين وشهرين من اندلاع الثورة التي امتدت الى بلدان أخرى وبعد اكثر من سنة من حكم الائتلاف الذي تسيطر عليه حركة النهضة الاسلامية، وبعد حكومة أولى اقر رئيسها حمادي الجبالي، بالفشل وحكومة ثانية لا يبدو ان مصيرها سيكون أفضل، تبدو تونس في وضع صعب على جميع الصعد. هذا ما يفسّر الاحتقان الاجتماعي وتتالي عمليات حرق الشبان لأنفسهم وارتفاع عدد الذين يعانون من أزمات نفسية وطالبي اللجوء السياسي.
فبعد سنتين تضاعف عدد العاطلين من العاملين الى ان وصل الى حوالي المليون، كما ارتفعت الأسعار بشكل جنوني ووصل معدل الفقر الى ٢٥في المئة، وارتفع معدل التضخم الى ٦ في المئة. وتضاعفت نسبة المديونية وغاب الأمن وانتشر السلاح ووصلت الحياة السياسية الى مربّع الدم والاغتيال الذي لم تعرفه تونس طوال تاريخها.
كل هذا أغرق البلاد وخاصة الشباب في مناخ من اليأس والإحباط، حيث أكدت دراسة نشرت أخيراً أن معدل الانتحار وخاصة عن طريق الاحتراق تمثلاً لشخصية البوعزيزي، يكاد يكون أسبوعياً، وهو معدل لم تعرفه تونس طيلة تاريخها.
وتتزامن هذه المشكلة مع تأخير العمل على صياغة الدستور الجديد لتونس، حيث لا تزال مضامين الدستور الحالي تثير الكثير من المخاوف، وخاصة في ما يتعلق بمدنية الدولة والتنصيص على الأمن الجمهوري وحقوق المرأة والمساواة بين المرأة والرجل، وغيرها من المواضيع الخلافية، بعد حوالي عام ونصف العام من انتخابه، مما أثار جدلاً كبيراً حول معنى الشرعية التي يتمتع بها المجلس التأسيسي الذي تسيطر عليه حركة النهضة (٨٩ مقعداً)، والتكتل من أجل العمل والحريات (١٢ مقعداً)، والمؤتمر من أجل الجمهورية (١٣ مقعداً).
ويرى عدد من الناشطين أن الغالبية التي يحظى بها الائتلاف الحاكم، أصبحت حجر العثرة الأساسي أمام أي عملية سياسية تهدف الى إنقاذ البلاد؛ مثل مبادرة الجبالي التي قبرتها «النهضة».
وتجمع القوى السياسية وبعض المنظمات الدولية الآن على ان الانتقال الديموقراطي يمر في مرحلة صعبة، في حين تُحمّل القوى الديموقراطية التونسية حركة النهضة وحزب المؤتمر، مسؤولية الاختناق الذي تعانيه البلاد والذي قاد شباناً في مقتبل العمر الى الانتحار احتراقا او الى الهروب الى اوروبا عبر قوارب الموت وهو نوع اخر من الانتحار. لكن الحكام الجدد يعتبرون أن الوضع العام في البلاد بخير، وان الإعلام هو المسؤول الأساس عن «الأزمة» لأنه إعلام «عار» ومصاب بـ«الحنين» لبن علي. كذلك يُحمّلون المعارضة مسؤولية الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة في البلاد.
ويؤكد احتراق الخضري في يوم عرض الحكومة الجديدة على المجلس التأسيسي ارتفاع منسوب اليأس والإحباط الذي يعانيه الشباب، والذي كان المحرّك الأساسي للاحتجاجات الشعبية.
وتمثل مشكلة الباعة المتجولين واحدة من أهم المشاكل التي تواجهها الحكومة التونسية الجديدة. والواضح انها لن تنتهي لأنها مرتبطة بالاقتصاد الموازي الذي كانت بعض عائلات الحكم السابق وراء تنميته وانتشاره.
وكانت سلطات الجمارك قد القت القبض أخيراً على اكبر شبكة للتهريب وتبييض الأموال في تاريخ تونس تورط فيها عدد كبير من المسؤولين.
لقد أصبح معارضو الحكومة يرفعون في تظاهراتهم شعاراً معبّراً: «الشعب فد فد من الطرابلسية الجدد» (الشعب مل من الطرابلسية الجدد في إشارة الى زوجة بن علي ليلى الطرابلسي واشقائها وأبنائهم أصهار الرئيس المخلوع).
وتؤكد هذه المعطيات ان لا شيء تغير لا في المنطق السياسي ولا في البنية الاقتصادية، إذ تغير الفاعلون، لكن منطق الاستفادة من الدولة واحتكار المال العام والصفقات العمومية والتهرب من الضرائب والتهريب، كل هذا لم يتغير فيه شيء وهو ما يفسر اعادة سيناريو البوعزيزي الذي مل من الاحتقار والتهميش ولم يجد أمامه من حل الا الانتحار محترقاً. بعد عشرات المنتحرين احتراقاً أو الذين حاولوا، جاءت حادثة أمس لتعيد السؤال من جديد عن مستقبل تونس وآفاق التنمية بعد عام وأسابيع من حكم الإسلاميين وحلفائهم.
ولعل اختيار الشاب لشارع الحبيب بورقيبة والى المسرح البلدي تحديداً كان وراء الاهتمام الإعلامي الكبير الذي رافق هذه المأساة، إذ اعتبرت بداية احتجاج جديد ضد الحكومة قد ينتشر خاصة بعد دعوة الجبهة الشعبية الى إسقاط الحكومة والتظاهر في الشارع يوم ١٦ شباط في ذكرى الأربعين لاغتيال شكري بلعيد.