بات المجتمع المصري يستيقظ بين فترة وأخرى على وقائع أحداث عنف يومية، كثير منها من منطلق سياسي أو على خلفية استقطابية بين القوى المتناحرة فكرياً وأيديولوجياً. وهو أمر، على خطورته، يظل داخل إطار الممارسين للسياسة أو المرتبطين بها مباشرة، وهم لا يتعدون قرابة 5 – 10 في المئة من الشعب المصري وفق تقديرات خبراء مركز الأهرام الدراسات السياسية والاستراتيجية. لكن في الآونة الأخيرة انسحبت ظاهرة العنف إلى قطاعات أخرى في المجتمع لتشكل بوادر ظاهرة «للعنف الأهلي» مثلما حدث في محافظة الشرقية والغربية والمنصورة بدلتا مصر، فضلاً عن بعض مناطق في الإسكندرية والقاهرة. وكان آخرها ما حدث أمس من عنف وصل إلى درجة استخدام السلاح الآلي في محافظة بور سعيد في حيّ العرب.
مشاهدات ورصد
بعض من هذا العنف سجلته وقائع ما جرى الأسبوع الماضي، في الشرقية حيث أوثق أهالي الشرقية لصاً في شجرة وانهالوا عليه بالضرب حتى الموت، وهي الواقعة التي تكررت في المحافظة نفسها أكثر من 10 مرات من بعد الثورة، بعضها كان عبر سحل اللصوص والبلطجية. بدورها، شهدت قرية محلة زايد في محافظة الغربية في دلتا مصر تعليق رجلين من أرجلهما أمام المارة وضربهما حتى الموت عقب محاولتهما اختطاف طفلة. هذا فيما كانت الإسكندرية على موعد مع عدد من المشاجرات خلال الشهر الماضي في منطقتي كرموز وباكوس الشعبيتين استخدمت فيهما الأسلحة الآلية والنارية في أماكن مكتظة بالسكان وأدت إلى سقوط قتلى. وبالعودة إلى الوراء قليلاً نجد زيادة في التمثيل بالجثث في بعض وقائع العنف، وهي أمور دفعت الجميع إلى طرح تساؤلات بشأن المجتمع المصري الذي كان شعاره في ثورته «سلمية...سلمية».
أحمد رجب، شاب عشريني يعيش في منطقة كرموز في الإسكندرية، أوضح أن «جميع من في المنطقة اليوم لديه أسلحة في منزله، بعدما كان الأمر مقتصراً على مجرد عصا غليظة»، مبرراً ذلك بأن «الشرطة اختفت من المشهد وتركت الناس يدافعون عن أنفسهم».
وروى واقعة شهدها بنفسه في مقر قسم شرطة كرموز حينما سمع أحد المسؤولين الأمنيين فيه يقول لأحد المشتكين: «خلي (الرئيس محمد مرسي) ينفعكم، وأدي الثورة اللي عملتوها»، مشيراً إلى أن هذا الأمر يعكس رغبة الشرطة في الانتقام من الثورة، ومن وجود مرسي على رأس الحكم على حد سواء.
ولفت رجب إلى أمر آخر متعلق بالسينما؛ اذ توجد طبقة من طلبة المدارس في الحي الذي يقطنه تحاول تقليد ومحاكاة بعض الممثلين في بعض الأفلام التي تظهر البلطجية وحاملي الأسلحة على أنهم أبطال مثل فلمي «عبده موته» وفيلم «الألماني»، وهو ما أسس، من وجهة نظر رجب، لـ«القدوة العنيفة» التي يمثل العنف وحمل السلاح بالنسبة إليها أداة حياة يومية، تجلب الوجاهة الاجتماعية، ما أوجد جيلاً جديداً يمارس العنف بمبررات عديدة. الباحث في المجال الحقوقي، عمرو إسماعيل، أوضح لـ«الأخبار»، أن ما تعيشه مصر يدق ناقوس الخطر؛ فالعنف الاهلي تزايد، وهو ما يقصد به «العنف المصحوب برغبة في التشويه والتدمير ولا يحمل طابع من الخصوصية كالثأر في الصعيد». وأوضح أنه في حال غياب السلطة، فإن المواطنين العاديين يسعون إلى أن يكونوا هم السلطة، لافتاً إلى أن وزارة الداخلية المصرية قد روجت لسياسة إعلامية منذ عقود، مفادها أن «البلطجي» أو الخارج عن القانون يستحق ما يحدث له من تعذيب. وأكد أن هذا الأمر استمر بعد الثورة، مستشهداً بواقعة شهيرة وقعت في مدينة المنصورة في دلتا مصر، حينما سُرِّب شريط مصور شهير لضباط جيش وشرطة يصعقون أحد المقبوض عليهم بصاعق كهربائي يدوي وهم يضحكون. واستقبل كثيرون الأمر بأن الشخص الواقع عليه الأمر يستحقه، منبهاً إلى أن ترويج هذا الخطاب جعل المواطنين العاديين يقدمون على هذا الفعل عندما شعروا بأنهم محل السلطة.
وفي هذا السياق، أكد الباحث في القضايا الإعلامية وتحليل الخطاب، أنس حسن، لـ«الأخبار»، أن الإعلام المعارض أدى دوراً كبيراً في «التطبيع» مع العنف الأهلي عبر إبرازه بمساحات واسعة لإظهار ضعف الدولة وعدم قدرتها على السيطرة، ومن ثم أوجدت له بعض الوسائل الإعلامية من حيث يدري بعضها أو لا يدري البعض الآخر «صيغة شرعية أو قبول عام قدم له سياق تبريري، فمن حيث أرادت ضرب الدولة ضربت التماسك المجتمعي».
من جهته، يضيف إسماعيل تفسيراً آخر لحالة العنف الأهلي بأنه انعكاس لفقدان الثقة في الدولة، فالمواطن العادي مع الوقت لاحظ انسحاب الدولة في مجالات عدة بما فيها المجال الأمني وسارع في التحرك للقصاص بيده أو أخذ تدابير احترازية لمواجهة الفراغ الأمني بما فيها العنيفة.
لكن في خضم البحث عن الأسباب والمسببات، كان لا بد من طرح التساؤل بشأن تكرار تلك المآسي في عدد من المدن والمحافظات في الشرقية، التي كانت من أوائل وأكثر المحافظات تعرضاً لهذا الأمر. وكذلك المحلة والمنصورة، وهي جميعها تقع في دلتا مصر، فضلاً عن عدم حدوث مثلها في الصعيد، رغم انتشار السلاح فيها. إسماعيل الإسكندراني، الباحث في علم الاجتماع، فسر هذا الأمر لـ«الأخبار»، عبر استناده إلى تقسيم الخريطة المصرية إلى حضر قديم وريف قديم وريف متحضر. وبيّن أن النوع الأول كمدينة أسيوط أو الإسكندرية أو القاهرة فيه جرائم عنف أهلي، لكن تكثر هذه الجرائم في الأماكن الشعبية أو البؤر الإجرامية. أما النوع الثاني كقرى الصعيد وعمق الريف المصري وأسوان، فنادراً ما يحدث فيه هذا الأمر. أما النوع الأخير ككثير من مدن الدلتا، فهو الذي انتشرت فيه ظاهرة العنف الأهلي بكثرة.
وعرّف الإسكندراني الريف المتحضر بأنه الذي حُدِّث قسراً، وفُتِّتت القيم التقليدية فيه قسراً، بينما الريف القديم هو الذي لا يزال محتفظاً بميكانزمات الضبط الاجتماعي ومنظومة القيم الأهلية والشعبية.
من جهته، نبه إسماعيل إلى أنه عند تحليل الأماكن الحادث بها العنف الأهلي، سنجد أنها من التي حُدِّثت عشوائياً وفُكِّكت منظومتها القيمية قسراً، وتتميز بالكثافة السكانية العالية وضعف البنية التحتية، ومن ثم يعيش مواطنوها تحت ضغوط عالية دوماً، فضلاً عن أن بعض سكانها كانوا قد تعرضوا للثراء السريع إبان سفر المصريين للخليج وعادوا غير قادرين على المحافظة على نفس المستوى المعيشي العالي، فاتجه الكثير إلى ثقافة «السبوبة والاستسهال في كل شيء»، وساد في بعضها النظر والغيرة من الآخرين، وخاصة مع تفتيت الرقعة الزراعية وعدم ارتباط التنمية الاقتصادية بالزراعة.
وعن عدم حدوث مثل هذه الأعمال في ريف الصعيد، بيّن الإسكندراني أن المجتمعات التي لديها أعراف قادرة على إدارة نفسها، فضلاً عن احتفاظها بقدرة على مواجهة تفكيك الروابط التلقيدية. بينما أشار عمرو إسماعيل إلى أن الصعيد لديه عامل ردع، هو السلاح الموجود مع الجميع، ومن ثمّ فالكل من البداية يعرف أن التكلفة ستكون باهظة الثمن، فضلاً عن أن الدولة منذ فترة طويلة غائبة عنه. ولذلك عندما غاب الدولة بعد الثورة في مدن الدلتا والوجه البحري، كان الصعيد مهيأً للتعامل مع هذا الشأن.