تونس | تعيد ذكرى وفاة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة الجدل في الشارع التونسي حول رجل الاستقلال (20 آذار 1956) وما بقي منه، بعدما تم حل الحزب الذي أسسه قبل عامين وانهار نظامه بعد ربع قرن من خروجه من الحكم وصعود طبقة سياسية جديدة لم تتخرج من مدرسته ولا تقاسمه الرؤى والأفكار نفسها. فقد وصلت المواجهة بين نظام بورقيبة والإسلاميين في أواخر الثمانينيات إلى حد الحكم بالإعدام على عدد من قادتها، من بينهم رئيس الحكومة الحالي علي العريض، وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي كان بورقيبة يعتزم إعدامه لو لم يغادر الحكم، حسبما أكد ذلك عدد من المتابعين لكواليس القصر الرئاسي آنذاك.
ورغم مغادرته الحكم قبل ربع قرن بعدما ترهل نظامه وتفاقمت أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بسبب العجز الصحي الذي انتهى إليه الزعيم الذي حكم تونس منذ سنة ١٩٥٥، لا يزال بورقيبة يشغل الشارع التونسي ويثير الجدل بين أنصاره ومعارضيه. فالأنصار هم من الحركة الدستورية التي تزعمها منذ مؤتمر دار بن عياد في مدينة قصر هلال في ٢ آذار ١٩٣٤ عندما انشق عن الحزب الدستوري وأعلن تأسيس حزب جديد باسم الحزب الدستوري الجديد. كذلك يناصره بعض أطياف اليسار والحركة النسوية والحركة الديموقراطية، فهؤلاء جميعاً يعتبرون أن بورقيبة حيّ لم يمت ولن يموت من خلال ما أسس له في التعليم والصحة والمرأة والبنية الأساسية.
أما معارضوه، وفيهم من يرفض حتى الترحم عليه، فيرون فيه ديكتاتوراً كرس نظام الحزب الواحد والرئاسة مدى الحياة وهمّش الجهات الداخلية ولم يهتم إلا بالشريط الساحلي، فيما شرّد معارضيه من أنصار صالح بن يوسف خاصة ومجموعة المحاولة الانقلابية سنة ١٩٦٢. ويعتبره هؤلاء المسؤول المباشر عن صعود زين العابدين بن علي الى الحكم، لأنه تمسك بالسلطة رغم عجزه عن ممارستها وهو ما فسح المجال للوزير الأول آنذاك وزير الداخلية بن علي بالاستحواذ على السلطة بسهولة كاملة.
بورقيبة المتشبع بقيم الجمهورية الفرنسية وفلاسفة التنوير وعيون الشعر العربي، وخاصة المتنبي، لم يكن في سلوكه السياسي مختلفاً عن سيرة الملوك العرب، إذ كان مهرجان عيد ميلاده يتواصل لمدة شهر تتوافد فيه جموع الشعراء والفنانين ليتغنّوا بسيرة «سيد الأسياد».
كما منح أبناء مدينته (المنستير) امتيازات كثيرة من دون أي اعتبار للكفاءة وتجاهل المناطق الداخلية التي ساندت غريمه بن يوسف في صراعهما الدامي.
كذلك كان بورقيبة وراء أول اغتيال سياسي في تونس، وهو اغتيال صالح بن يوسف إلى جانب تمسكه بنظام الحزب الواحد وتزييف أول انتخابات تعددية في ١٩٨١ وزجه بمئات المعارضين من اليسار والقوميين والإسلاميين في السجون وقمع الحركة الطلابية والتجنيد القسري للطلبة المناوئين لنظامه وقمع التحركات الاحتجاجية في ١٩٧٨ و١٩٨٤.
لكن رغم هذا الرصيد من «الجرائم» السياسية، لا يزال جزء كبير من الشعب التونسي متمسكاً بالزعيم، بل يرى فيه أباً مؤسساً رغم أخطائه.
ولم يكن بورقيبة ليحظى بهذه الحظوة والشعبية والتبجيل والاحترام لولا ما قدمه لتونس. فقد عاش الرجل من دون أن يملك شيئاً، فلا حسابات جارية في المصارف الأجنبية ولا التونسية ولا عقارات.
كان الزعيم زاهداً في المال وموصوفاً في حب تونس، بينما كان يرى في معارضيه «أبناء ضالّين» يجب عقابهم كما يعاقب أب أبناءه.
ومن حسنات حكمه نشر التعليم وإجباريته، ما جعل من تونس البلد الأقل نسبة أميّة في العالم العربي. وكذلك السياسة الصحية ومنع تعدد الزوجات وتنظيم النسل، ما جنب تونس كارثة ديموغرافية بسبب نقص مواردها، وخصوصاً أن حكومته مدت شبكة الماء والكهرباء في أغلب مناطق البلاد. واهتم بالمسرح والفنون وجعل من دعمها المالي واجباً على الدولة.
ولعل منجزات بورقيبة هي التي تحول دون تغيير نمط المجتمع التونسي، رغم كل ضغوط التيارات الإسلامية.