اللاذقية | لا رصاص هُنا، إلا نادراً. ولا أصوات مدفعية قريبة تدكّ المناطق المتوترة. إلا أنّ البذلات المموّهة تنتشر في كل مكان، حتى في سوق وسط المدينة. عسكرة الناس أمرٌ عادي في اللاذقية، فالبذلة المموّهة كناية عن الشرف والكرامة وحماية الأرض والعرض. هذا ما يردده الإعلام السوري والكثير من السوريين، ولا سيّما أهل الساحل. يعود الفقراء من العسكريين في نعوشهم محمولين على الأكتاف، فيتقدس اسمهم ولباسهم لدى عامة الناس، وينقم ذووهم على دولة تراخت في إمدادهم أو إنقاذهم طيلة فترات من الحصار في كثير من المناطق، وسلطة تستخدمهم أرقاماً لأوراق سياسية تبقيها في سدّة الحكم مدّة أطول. الشائعات في اللاذقية كثيرة. تتراوح الحكايات ما بين الأكثر سذاجة والشائعات المتداولة بفعل فاعل بهدف التغطية على الكثير من الأخطاء والأحداث الحقيقية أو شحن الناس برصيد إضافي من الاحتقان. «سيضربون اللاذقية بالأسلحة الكيماوية»، جملة ساذجة يردّدها الكثير من بسطاء المدينة بعد انتشار أخبار حصول المعارضة المسلحة على السلاح الكيميائي واستعماله في خان العسل بحلب والعتيبة بريف دمشق ضد عناصر من الجيش السوري. وبين السكان من يرى أنّ المعركة التي تشهدها البلاد قائمة على خلفية طائفية، فيما سيعترض آخرون على تصنيف الصراع طائفياً، معتبراً أنّ الدولة لا تزال واقفة بجهود الواعين من أبنائها على اختلاف فئاتهم وطوائفهم. إنما لا يختلف معظم اللاذقيين على معيار الوطنية، وهو الالتفاف حول الجيش. بإمكان المرء هُنا أن يسمع آراء مختلفة حول تأييد رئيس الجمهورية شخصياً، بينما الجيش هو الخط الأحمر المقدس الذي لا يجرؤ أحد على المسّ به، وهو أمر واضح طالما أنه يضمّ في صفوفه الكثير من أبناء الساحل.
إلى الشمال قليلاً، وحيث يمتدّ الريف على مساحات واسعة من المزارع والغابات التي تصل حتى الحدود التركية ولواء اسكندرونة المحتل، يمكن أن تتناهى للمرء أصوات بعيدة لمدفعية تضرب قرى جبل التركمان أو أصوات رصاص يخترق صمت تلك الجبال ليلاً. الجيش السوري واللجان الشعبية بالمرصاد لأي محاولات تقدم نحو بعض قرى الريف المحصّنة، وصولاً إلى المدينة. ومع ذلك، فإن تدفق المسلحين عبر الحدود التركية يطيل أمد المعركة ويفتح الاحتمالات على الكثير من القلق. لا أحد يستطيع أن يؤكد أن اللاذقية في مأمن، والهواجس كثيرة. يروي أحد مقاتلي الجيش السوري، في ريف اللاذقية الشمالي، أنّ خطورة المعارك في الريف بدأت بعدما سيطر مسلحو المعارضة على مرصدين مرتفعين هامّين، وهما «الكبير» و«السودا»، بالإضافة إلى «الدغمشلية» و«غمام». وهي عبارة عن أربع قمم استراتيجية، استعادها الجيش لِما لها من أهمية عسكرية. عودة قمّتي «السودا» و«الكبير» إلى أيدي الجيش السوري قطعت خطوط إمداد رئيسية تأتي من تركيا، ولذا فإن التنازع عليهما يشرّع الباب شمالاً للمزيد من المعارك، إلا أن الجيش اختارهما للتمركز فيهما وتحصين مواقعه. نقطة الـ«45» الأقوى عسكرياً يسيطر عليها الجيش سيطرة مطلقة، كما يسيطر على الطريق الواصل بين كسب ومفرق البسيط، رغم محاولات الخطف التي شهدها هذا الطريق سابقاً، والتي ردت عليها اللجان الشعبية بخطف مضاد لاستعادة المخطوفين.
في المقابل، يسيطر عناصر المعارضة المسلّحة على قرى تركمانية كـ«الدرّة» و«الشحرورة»، ويتمركزون بقوة في قرية ربيعة الحدودية. المدنيون من الأقلية التركمانية حاضنون للمعارضة. ومن هُنا تأتي قوّة المعارضة في هذه المناطق، بالإضافة إلى الأسلحة المتطورة التي تصل بشكل دوريّ عبر الدولة الجارة، والتي كان آخرها قنّاصات يصل مداها حتى 4 كيلومترات، ما سبب خسائر في صفوف الجيش، حسبما يروي أحد ضبّاطه. وفي خضمّ المعارك الشديدة تمت سيطرة المعارضة المسلّحة على قرية القصب المسيحية الاستراتيجية أيضاً، ليستعيدها الجيش في اليوم ذاته، إذ لم يستطع التخلّي عن بسط سيطرته عليها، بالإضافة إلى تمشيطه قرى تركمانية بالكامل مثل: برج إسلام وقرية أمّ الطيور إحدى أجمل قرى الساحل السوري. لا أمر واضحاً لدى الجيش السوري بالتقدّم إلى داخل بعض المناطق والقرى، إثر تغيير تكتيكه القتالي بعدما أصبح يحارب بأقل خسائر ممكنة له. ويتابع المقاتل تأكيده لـ«الأخبار» أنّ خطوط الإمداد الأقوى للمعارضة تعتمد بشكل مباشر على إدلب وحدود كنسبّا الواصلة بتركيا.
وإلى الريف الشمالي الشرقي. ويذكر مقاتل في المقاومة الشعبية، التي تم إنشاؤها حديثاً كرديف للجيش السوري، أنّ عمليات نوعية للجيش السوري جرت منذ أيام غرب جسر الشغور، في وقت لا تزال فيه المعارضة المسلحة تتمركز في القرى الحاضنة لها شمال جسر الشغور أو ما يسمى «الجبل الأوسط» نسبة إلى جبل الزاوية. قرية كنسبا الشهيرة لا تزال تحت حصار الجيش السوري منذ أكثر من سنة دون أمر بدخولها حتى الآن. يستخدم الجيش المدفعية والطيران أحياناً في دكّ مواقع مسلّحي المعارضة، ويسيطر على المنطقة حتى مفرق قرية الجانودية، لتبدأ بعدها السيطرة للمعارضة المسلحة على القرى المسيحية هُناك كـ«جديدة» و«القليّة» وقرية اليعقوبية الشهيرة التي تم سلب أشهر أديرتها الأثرية الأرمنية دير القديسة آنّا. تمركز مقاتلي المعارضة في كنسبا حصين، بحسب أحد سكان القرية، إذ إن الأنفاق تملأ أرضها لتصلها بالحدود، في حين يبدو دور الأقلية التركمانية يقتصر على التمويل والتسليح عبر تركيا، فيما قلة قليلة منهم تقاتل إلى جانب أعداد هائلة من عناصر يتبعون لجنسيات مختلفة، ما اضطر الجيش إلى وقف العمليات العسكرية والاكتفاء بحصار المنطقة.
لا يعيش عناصر الجيش السوري في الساحل على اختلاف طوائفهم ومناطقهم الصراع النفسي الذي يعانيه رفاق سلاحهم في مدن الداخل، إذ إن أهالي الكثير من القرى الفقيرة يقتطعون من قوتهم اليومي من أجل احتضان الجنود والاهتمام بهم، كردّ مناسب على المناطق التي تعتبر بيئة حاضنة لمسلّحي المعارضة. ولعلّ هذا ما يجعل معركة ريف اللاذقية أخف وطأة من معارك المدن الأُخرى، بالنسبة إلى الجيش. وعليه، فإن سكان الشريط الساحلي يعملون الحسابات لاقتراب الخطر إليهم، إلا أنهم يتطلعون إلى الجيش السوري على أنه قارب النجاة الوحيد بالنسبة إليهم.