حمص | لا أثر لذكريات الزمن الماضي في حمص، حيث لأهلها الظرفاء حكايات لدى جميع أبناء الأرض السورية. لا محطّة يتوقف المرء عندها للتزود بحلويات «أبو اللبن» الشهيرة التي يعرف السوريون طعمها جيداً. لا يلفت النظر حولك إلا آثار الدمار المبالغ به. وسيتوقف الزائر طويلاً أمام وحشية التخريب الذي مرت به المدينة ولا تزال تعاني منه، بالإضافة إلى ابتكارات يرويها شهود من قلب الأحداث الماضية عن طرق فنية للقتل بدم بارد... والذي مارسه أبناء المدينة بعضهم تجاه بعض.
في بداية حيّ الخالدية الشهير، حيث جرت أقسى المعارك بين الجيش السوري ومقاتلي المعارضة، لا بد من البدء بالجولة سيراً على الأقدام. سيدلّك أحد أفراد الجيش السوري أو عناصر الدفاع الوطني على الجزء المكشوف من الشارع أمام رصاص القناص، وسيقول: «عند تلك الأشجار سقط صاروخ يدوي الصنع، وقتل طفلاً. حاوِلوا المشي بمحاذاة الجدران خشية الانكشاف أمام القناص». للدخول إلى الحيّ لا بدّ من الركض هرباً من الموت المتوقع مع كل خطوة. إلى الأمام قليلاً وحيث يتمترس حُب الحياة بالمباني التي هجرها أصحابها، قد ترى امرأة عجنتها السنوات تبيع علب التبغ لعناصر الجيش، إثر رفضها الخروج من منزلها. فتقول: «ليس بمقدور الجميع الخروج من منازلهم. بقيتُ وبعض الجيران هُنا محاولين مغالبة الظروف الصعبة كي لا نُهجّر من بيوتنا». وبكل ودّ تتعاطى المرأة مع الأسئلة الصحافية المتطفلة. وتستمر أخطار الجولة في التنقل بين «حارات» الحي، التي قسّمها الجيش السوري إلى كُتل مرقّمة، وراح يسيطر عليها تباعاً، وصولاً إلى الكتلة العاشرة التي تشهد أطرافها احتدام الاشتباكات بالقرب من جامع خالد بن الوليد، حيث يتمركز مسلّحو المعارضة. رجل وامرأة يحاولان العبور نحو وادي السايح عبر المنطقة، هو مشهد لافت في المكان الكئيب، يقفان داخل أحد المنازل المهجورة بانتظار جندي في الجيش ليأتي ويساعدهما في تفادي رصاص القناص على أحد المفارق الفرعية.

هواجس المقاتلين

المتاريس التي بناها عناصر الجيش بين المباني هي عبارة عن أكوام من الركام والبراميل وبعض الستائر والأقمشة التي تموّه عبور أي شخص خلفها، فتصعّب العملية على من يصوّب تجاه الموقع. ويعتمد الدخول إلى عمق مناطق الاشتباكات على المرور من خلال فجوات فُتحت في جميع جدران الطبقات الأرضية التي نالت حصتها من الدمار. هُنا، الملابس تتناثر على أرضيات البيوت. الصوَر لأصحاب البيوت الغائبين قد تظهر لك بين منزل وآخر. صورٌ شخصية لتلاميذ يرتدون لباسهم المدرسي داخل حقائب مرميّة بين أقدام السائرين. لن تستطيع أن تتفادى دوس ذكريات الآخرين وأحلامهم، وسيلاحقك حينئذٍ قليل من الذنب تجاه هؤلاء. ولن تمنع نفسك من السؤال عن مصائرهم: أتُراهم قتلوا تحت ركام منازلهم؟ أم نزحوا إلى أماكن أُخرى ناجين بما بقي من حاجياتهم، ومن بقي منهم على قيد الحياة؟ الاستمرار في السير بين ممرات «الكتلة العاشرة» سيتطلب مزيداً من مصارعة الخطر، فالهرب من القنص يفرض مشي القرفصاء داخل خندق ضيق مسقوف بأغطية معدنية، حفره الجيش خصيصاً لتحصين المرور داخل الكتلة التي تمت السيطرة عليها حديثاً. محاولة استكشاف ماهية المعركة التي تدور قريباً جداً من الخندق تحتاج الصعود إلى أحد المباني، حيث يتمركز بضعة رجال من جيش الدفاع الوطني الرديف للجيش السوري، والمشكّل حديثاً في البلاد. أحدهم يتخذ موضعه حاملاً سلاحه، ويرصد المبنى المقابل. الرجل الخمسيني، الذي يغطي الشيب شعره بالكامل، يقول بثقة: «إنهم هُنا. أمتار قليلة تفصلنا عن بعضنا. أحياناً نتبادل الصراخ في ما بيننا». لا أحاديث معيّنة بين عناصر الطرفين المتقاتلين، فمرات يتبادلون الشتائم، ومرّات أُخرى يبدأ عناصر الجيش بابتداع أحاديث بغرض التسلية وتضييع الوقت حتى يحل الظلام لتنفيذ إحدى العمليات. وهُنا قد يفتتح أحد الجنود حديثه مع أعدائه، بسؤاله عن الطريقة التي عليه اتباعها إن أراد الانشقاق. بسخرية يقول الجندي الشاب القادم من إحدى قرى ريف دمشق: «سيصلنا الرد بلهجة غير سورية». الرجل الخمسيني يبدو أكثر الجنود ودّاً وأقلهم تحفّظاً؛ إذ لا مانع لديه من الحديث والتقاط صورة له أمام سلاحه، بشرط ألا يظهر وجهه. من تلبيسة قدم مع أولاده الأربعة للتطوع في الجيش الوطني، بعد تهجيره منها بسبب اختلاف طائفته. يعترف بالأمر رغم استحالة استجابة العسكريين للحديث بالشؤون الطائفية، ولا سيما في ظل وجود عناصر من جميع المناطق والطوائف السورية يستمعون إلى الحديث كاملاً. من الصعب على الجنود التمييز بين من يعطي للآخر أسباب البقاء: الجيش السوري أم الرئيس بشار الأسد؟ إلا أنهم يدينون بالولاء المطلق للرئيس ومستمرون في «القتال حتى النفس الأخير».

آخر خطوط النار

كمائن عديدة تُنصَب لعناصر الجيش في الخالدية؛ إذ يسمعون في الفترة الأخيرة أصوات استجداءات من نساء وأطفال يصرخون طالبين منهم إنقاذهم، فيبدأ الأكثر خبرة بتحذير الجنود اليافعين من الاستجابات لمثل هذه الأصوات التي غالباً ما تصدر من نهايات مجهولة لأنفاق مكتشفة حديثاً حفرها مقاتلو المعارضة الذين سيطروا على الحي طوال أشهر سابقة. يقول أحد المقاتلين الخبراء في القتال: «من أين سيأتي الأطفال والنساء إلى هذه المنطقة المهجورة التي تنتشر فيها اشتباكات عنيفة؟ إنها خدع مكشوفة. وأحياناً تصدر الأصوات من مبانٍ قريبة لم يتم تأمين محيطها بنحو كامل». الوصول إلى نهاية الكتلة العاشرة سيحيلك على عسكريين اختصاصيين يديرون العمليات قرب جامع خالد بن الوليد. وهُنا ستصطدم بموانع كثيرة تجعلك تتوقف عند هذا الحد من التقدم، ويُطلب إليك أن تقدّم بطاقتك الشخصية والصحافية وورقة المهمّة التي أدت إلى وجودك في المكان. الحلّ الأسلم هو العودة أدراجاً واجتياز ذات النقاط الخطرة التي عُبرت منذ ساعات، إنما سيبدو الطريق أطول وأصعب بكثير، إذ إن حماسة العودة لا تشبه بأي حال الحماسة في الذهاب.
في طريق العودة أيضاً، لا بد من طلب المساعدة من أحد عناصر الجيش، وخلال السير تتواصل الأسئلة والإجابات العسكرية المقتضبة: «بعض المناطق التي اقتحمناها كانت تتمتع بالكهرباء والماء، فيما تقطع المياه في كثير من مناطق حمص، وربما في مناطق تعيش فيها عائلاتنا». لا يمكن الاستنتاج إن كان كلام الجندي هو معلومات يقولها للصحافة أو مجرّد تذمّر وتساؤل عن أسباب التعاطي الإيجابي مع سكان مناطق خرجت عن سيطرة الدولة. الكثير من الركض أمامك لتخرج من حي الخالدية، وستسمع طوال الطريق أخباراً عن إحكام السيطرة على الكتلة العاشرة، وعن تحصن مسلحي المعارضة ضمن مثلث ضيق رأسه جامع خالد.

بابا عمرو وعودة النساء

للدخول إلى حيّ بابا عمرو الشهير لا بد من استئذان الحواجز التي قلّما تتجاوب مع الفضول الصحافي، وحتى الاستئذان لا يعني البقاء دون رقابة أمنية على تحركاتك تحت ذرائع تتعلق بـ«حمايتك». أمام أحد المباني تقف امرأة منقبة تمسك بيد طفلتها، يقف إلى جانبها طفلان آخران. تجيب عن السؤال: «جئت أتفقد منزلي». وتسخر من سؤال آخر عن حال منزلها الآن بالإشارة إلى شقة في الطبقة الثانية، وابتسامة هازئة تلوح وراء النقاب. تتحدث الشقة نيابة عن صاحبتها، حيث تبدو الفجوة الهائلة المُحدثة في الجدار أبلغ من أي تعبير، ولا سيما في وجود ما بقي من الأثاث متدلياً إلى أسفل. ترفض المرأة الاستجابة لطلبنا الدخول معها إلى المنزل، تمسك بيد طفلتها وتدخل مع طفليها الآخرَين، وتغلق الباب متذمرة من الإلحاح. أحد السلالم الحجرية المتهالكة يفتح الشهية على أخذ صورة تذكارية في مشهد صادم للمتفرجين. هذه الصورة قد تكون كافية ليلتف حولك عناصر من القوى الأمنية يسألونك عن سبب وجودك في المكان. يقول أحد السكان: «لم يعد يسمح بدخول الجميع إلى الحي بعد عملية الالتفاف الأخيرة على الجيش في بابا عمرو، والتي كبدت الجيش خسائر واضحة. سُمِح فقط للنساء والأطفال بالدخول». الموجودون في الحي من المدنيين قلّة، بينهم رجال. أحدهم يغطي وجهه في وجود الكاميرا رافضاً الحديث. وآخر يركب دراجته ويبتسم للكاميرا بودّ.

الزهراء... والقاتل الماهر

في حيّ الزهراء، المؤيد للنظام، يتابع القنّاص التسبب برحلات الموت اليومية لسكان الحي. جدار جديد بناه أهالي الحي في الساحة الرئيسية بهدف تخفيف أعداد الضحايا الذين تجاوز عددهم 420 شخصاً. يتموضع القناص على أحد مباني حمص القديمة، وينشط في الساعة السابعة صباحاً مع خروج الموظفين إلى أعمالهم. يتسلّى في لعبة الموت لمدّة ساعة، ثم يأخذ قسطاً من الراحة، تاركاً لأهالي الحيّ إسعاف مستهدفي اليوم، وإنهاء بعض أعمالهم. ويعود فيستأنف نشاطه ظهراً مع عودة طلاب المدارس إلى منازلهم. وقبل مغيب الشمس ينشط الرصاص ساعة إضافية، مودّعاً يومه وقد روى عطشه للدماء بقتلى جدد. لا يمكن وضع حد للقاتل الماهر؛ إذ إن أفضل الطرق لتصفية قناص هي الدهم المباشر، بعدما تبيّن أخيراً وجود احتمال آخر لاستهدافه بالقذائف، حيث يمكن أن يستفيد من الردم الناتج من سقوط القذيفة ليعيد تموضعه بطريقة أكثر منعة وتحصّناً.
الخروج من الزهراء باتجاه وادي الذهب، يفتح باب التساؤلات عن سقوط قلعة حمص بيد المعارضة المسلحة منذ أكثر من شهر. اختراق القلعة بدأ من باب التركمان، واشتعلت الاشتباكات على سطحها بين الطرفين. نصف ساعة فقط استولى خلالها مقاتلو «جبهة النصرة» على القلعة التي كانت مركزاً لقوات الجيش السوري، والتي تكشف بموقعها الاستراتيجي جميع مناطق حمص المؤيدة والمعارضة، وتتوسط حمص القديمة مسرح المعارك الدائرة الآن.
وفي حمص، حيث تتمثّل النكبة السورية بأقسى ملامحها، تلوح حكاية حي كرم الشامي الذي احتضن الحراك السلمي ضد النظام، واستمرت باحتضان اللاجئين من المناطق الساخنة كبابا عمرو وحمص القديمة.



«كرم الشامي»... السلمي

تبدو حكاية حيّ كرم الشامي من المفارقات الغريبة في المشهد السوري؛ فالحيّ يتميز بطبيعة سكانية معارضة للنظام، وترفع شعار المطالبة بالعدالة في تظاهرات أيام الجمعة في زمان سلمية الثورة، إلى أن توقف بالتزامن مع بدء العمليات العسكرية في المناطق المجاورة من حمص القديمة وباب السباع. رفض أهالي الحيّ منذ اللحظات الأولى حمل السلاح، إذ وجدوا أن حمل السلاح لا يخدم موقفهم السياسي.
موقف لطالما حلم جميع السوريين باعتناقه من قبل الأطراف المتصارعة. ورغم احتضانهم العوائل النازحة الهاربة من ساحات المواجهة في المناطق الأُخرى، إلا أنهم لم ينجروا لكل محاولات توريط منطقتهم في الصراع الدائر، معتبرين أنهم بهذا حموا منطقتهم من الدمار وحافظوا على بيوتهم من أن تكون عرضة لنيران الجيش فيما لو احتضنوا مسلحي المعارضة. يقف حاجز الجيش السوري في الحيّ بلا أية مشاكل، يبتسم أحد الأهالي قائلاً: «كُنا الأبعد نظراً خلال الثورة السورية».