مخيم اليرموك بين نارين، تَقتلان ولا تُقتلان، أما القتيل؟ فبينهما: مدنيّ يأخذ شكل المخيم، فيا أيّها المخيم «على أيٍّ من جانبيك تميلُ»؟يقول المخيم: كلاهما بالغا في حبي، توّجاني بقصائد الشعر والأغاني، ثم سفكا دمي، وبكيا على جرحي، وشيّعا شهدائي، حاربا باسمي، وسقطا من أجلي، أو هكذا يقولان... ولكني كنتُ في كل مرة أجد نفسي وحدي، قتلني حبهما بنيران صديقة، فعلى أي من جانبيَّ تريدني أن أميلُ؟

مع الموت، وسط النيران الصديقة، كان المخيم وحده، وكان الجميع ينسجون بعيداً عنه قصائد المديح العالي، ثم ينشغلون عن موته بأشيائهم الصغيرة: أبو مازن يفرد جوازات السفر على موائد النجوم، كمن يريد دخول موسوعة غينيس كالرئيس الأكثر ازدياناً بالنجوم، والمنظمة منقسمة على نفسها بين وفد يتأكد إن كان محمد عساف غنّى مع شلة من أصدقائه وبيده سيجارة، أم أنها دعاية إسرائيلية تستهدف الوجود الفلسطيني في العالم! ووفد آخر للمنظمة أعياه الصيام، ففضل شرب التمر الهندي بباب سوق الحميدية، والدعاء لأبناء المخيم في أقرب فندق من وسط دمشق، أن يكفيهم الرب شر رصاص الصديق والقريب. وما بين الوفدين، كان كل من قادة الفصائل يجرّ عربته و«مطرح ما يرزق يلزق» ينادي على بضاعته؟ خذلوك أهلك أيها المخيم، فماذا تنتظر من الغريب؟!
يقول المخيم: لم أنتظرهم، فلا أنتظره، لكني تركت قشة الغريق لهم فغرقت، وقصمت القشة التي تركتها ظهرهم/ ظهر البعير.
المخيم يشرح لي:
عيونهم عليّ وعيناي على فلسطين، هم يريدون مني جسراً ليبقوا جالسين الى موائد الحكام، وأنا أريد مني أن أكون جسراً لأعود. وحين أتانا الطوفان، وضعوني تحت أقدامهم منصةً لينعوا للعالم غرقي، فعشت أنا، بغرقي، وماتوا هم والمنصة بالخذلان. أندمت على قشة الغريق حين تركتها لهم؟! أسأل المخيم.
لا يندم المخيم، يقول لي، لكني اليوم صرت أنوء تحت ثقل اكتهالات المنافي، وسنوات انتظارهم العجاف... حملتهم والأنظمة العربية خمسة وستين عاماً، وما حملوني إلا إلى ميادين الهزيمة وموائد التنازلات. لم أندم، لكني ربما أخطأت حين أقلعت عن حملهم، يوم هم لم يقلعوا عن التجارة بي. مجزرة تلو المجزرة، يصمد المخيم فلا يسقط، كلما سألته إلى متى؟ يشير إلى انتصاب جدار وسط الدمار، ويقول: باقٍ ما دام هو باقٍ، فإن أخذته القذيفة، أخذته معي، فقد تعاهدنا، إن عدتُ إلى فلسطين عاد معي، وإن متّ هنا تكوّم على جسدي، أو أتكوّم أنا.
يلملم المخيم جراحه، ويبتسم.
المخيّم يبوح لي: سأظل أبتسم، ما دامت «المدن تعبس حين يبتسم المخيم». المخيم يعترف لي: لا تصدق في كل مرة ابتساماتي، ففي الليل أغمر جسد الشهيد بجسدي، وأعاتبه: أنا وأنت مؤقتان بانتظار العودة، فلِمَ غادرتني ولم تعد، ولمَ تركتني ولا أريد أن أبقى؟
المخيم يغافلني، يجهش بالبكاء، وبصوت مخنوق يسألني: مزّقتني القذيفة، فبأيّ جسد إلى فلسطين غداً أعود؟