الغضب وحده في شوارع مصر. اختفت جيوش الرعب. دخلت جحورها. لا وجود للبدلات السوداء ولا الكاكي. جمعة جديدة يهندس الثوار فيها المدن التي كانت أسيرة. اختفت مظاهر الشرطة بعد «٢٨ يناير» ٢٠١١، وتبعها اختفاء القبعات الحمراء وكل أشكال العسكر. هكذا استُبدلت المواقع في عام واحد، بعدما كان الثوار يهربون من أمام القطعان السوداء. الهروب الآن هو الاختيار الآمن للقطعان نفسها. الملايين في الشوارع يهتفون: يسقط يسقط حكم العسكر. والأهالي في الشرفات يلوّحون باللافتات، وحناجرهم تلتقي مع الهدير المخترق للمدينة التي عاشت صمتاً طويلاً. الملايين يحملون نعش المشير وسرير المومياء الذي التصق به حسني مبارك. وتتحرك المسيرات من أنحاء القاهرة الأربعة لتلتقي في الميدان. كيف أفلتت كل هذه الملايين من حصار آلات الكذب والتضليل وصناعة الخوف؟ هاجر المصريون الكنبة والبالونات الشخصية وقرروا أن هذا البلد يخصهم. ليسوا هاربين ولا ضيوفاً. الثورة فتحت الشرفات، التي أُغلقت بالألوميتال والحجارة، وأسوار الحديد. المصريون كانوا يشبهون شرفاتهم، إما أن تُترك للتراب، وأن يأكلها الصدأ، أو تغلق لتوسيع مساحات ستظل ضيقة طالما أن الشارع ليس لنا. المجلس العسكري حاول إغلاق الشوارع ونشر الرعب من النزول الى الشارع. أراد استعادة دولته الأمنية ليكون لها الكلمة في الشارع.
لم يكن الأمن حراس الشوارع، لكنهم سجّانوها. حوّلوها الى سجون وغابات. والثوار حرروها. الشهداء دفعوا أرواحهم وها هم يقودون مسيرات تكمّل تحرير الشوارع وفتحها على ميدان الحرية: «على الميدان رايحين شهداء بالملايين»، هتافات تعلن أنها «ثورة موش حفلة»، وأن الضحايا حاضرون لا حاصدي الغنائم.
وها هي «ست البنات» حاضرة ببهاء أزرق. لم ير أحد ملامح وجهها. بدت مجهولة للجميع. صورتها جدّدت الثورة. صنعت فوراً فيضاناً يواجه جبروت الحذاء العسكري. الجندي لا يعرفها. يتصرف ضمن ماكينة تتحرك بزرّ في الغرف العالية. لوحة فتاة البهاء الأزرق منتصبة في الميدان، ولافتات تضع قائمة سوداء تضم الفرعون النائم في القفص، وبقية نظامه الفرعوني، من المشير الى أعضاء المجلس العسكري: «المرة دي بجد موش هانسيبها لحد». تعلّم الثوار إذن أنه لا أمان لمن اختارهم التمساح في بحيرته. التماسيح الصغيرة عجوزة أيضاً. ليس أمامها إلا الكذب.
المجلس بعد رحلة كذب طويلة أخرج بياناً أول من أمس يحمد الله فيه على أن مصر مرت بخير من «٢٥ يناير»، وأنه قد ظهر كذب المأجورين، الذين تحدثوا عن مؤامرة تخريب وحرق مصر. إنه لا يكذب فقط، لكنه يصدق كذبته الى حد لم يعد يدرك فيه أنه صانعها. أما الثوار، فلا يكتفون بالفتات المُلقى من غرف كهنة الدولة القديمة، ومجمع الديناصورات. يريدون جمهورية جديدة لا مزيد.
الملايين أمس أربكت الحسابات، وأعلنت فشل كل الأدوات التي أخرجوها من دواليب مبارك: الأولى، آلة التضليل الإعلامي، التي حولت الثوار الى شياطين، والجنرالات الى ملائكة. والثانية، ماكينات صناعة الخوف من مخطط حرق البلد والأصابع الخارجية للّعب بمصير الدولة، ومخططات إسقاط الدولة الى آخر هذه القائمة الجاهزة والمحفوظة. أما الثالثة، فالفصول الأولى من كتاب صلاح نصر عن الحرب النفسية، التي استفاد منها المجلس العسكري في نشر الشائعات وتسريب المعلومات وصنع مزاج عمومي ضد الثورة. والرابعة سلاح «البغبغانات» الشهير بمستوياته المتعددة من مرددي نشيد يحيا المجلس، وبالروح بالدم نفدي المشير، الى مرممي الأساطير السياسية. والخامسة أدوات التيارات السياسية الباحثة عن المغانم؛ فلم تفلح محاولات الإخوان المسلمين في حصار الغضب لمصلحة الاحتفال، ولا في الظهور بصورة من يحمي البلد من التخريب، لأنه أولاً وببساطة لم يكن هناك مخطط للتخريب، كما أن الثوار ليسوا خربين، هم بناة ومؤسسون في دولة الحرية، والأدهى أنه عندما وقع تخريب فعلي من ميليشيات المجلس العسكري (في ماسبيرو أو محمد محمود والقصر العيني) التزم الإخوان الصمت.
الثورة إذن عادت إلى مواجهة الفوضى الكبيرة التي صنعها المجلس العسكري، ودمر جسور الانتقال الي جمهورية جديدة بإصراره على إعادة بناء دكتاتورية جديدة، يحكمها كهنة خلف الغرف المغلقة، وتُدار بالتحكم عن بعد من مؤسسات الغموض. لماذا لم يفهم الإخوان المسلمون أنهم أصبحوا حزباً لا ينتظر الرضى العالي؟ هل كان أمامهم خيار آخر؟
أقام الإخوان أطواقاً تحاول حصار الميدان وتغليب الاحتفال على الثورة، ومع الحشود القادمة من كل الاتجاهات حاصر الثوار حصارهم، وأصبحت منصة الإخوان هدفاً للثوار بهتافات: «بيع بيع الثورة يا بديع»، و«أنا موش جبان أنا موش إخوان». مناوشات منصة الإخوان كادت أن تنتهي بصدام عنيف بعد التلويح بالأحذية، وفقدان أعصاب لم تعالجه مسكّنات نائب إخواني هتف ضدّ العسكر.
الثورة رشيقة، خفيفة، تعبر أزماتها وتنشر أفكارها في الهواء. كتب الثوار على مبنى ماسبيرو بالضوء يسقط حكم العسكر. ماسبيرو لايزال يكذب: التظاهرات تؤيد العسكر، والثوار يحاصرون المبنى من أجل تطهيره من شياطين الكذب. الهتافات تخترق الآذان، والصور تعيد العيون من عماها، والعسكر ينتظرون في صمت لحظة يخرجون فيها من بحيرتهم الآسنة. أين ستكون محطة الغضب القادمة؟