غزة | كافية هي تلك الرياح لتُحرِّك السيارات دون الحاجة إلى وقود لم يعد له وجود في القطاع المحاصر. تمرُّ السيارات أمام عينيَّ هاربةً من ازدحام الطابور البشريّ على الإسفلت المنتظر سيارة تقله. 25 دقيقة، والعجوز بجانبي يُنصحني: «لا تطلعي بالساعة، الانتظار في أوِّله!». يضمُّ يديه على عكازه الخشبي، كاد يبتسم، لكنه مشى متردداً في ذلك، فابتسمتُ. وكأنه حين يئس من توقف سيارة تقلَّه، ضاعف علوّ صوته متمنياً لي حظَّاً أوفر بوصولها، تلك «المحروسة/ السيارة»! توقفت السيارة عند أطراف قدميَّ، أنحني لأساوم السائق، فأسعار النقل كل يوم بشكل.
اقول له «الجامعة؟» فيأتي ردَّه سريعاً: «2شيكل (نصف دولار) بدك؟». دون تفكير قلت «لا مشكلة»، وركبتُ. امرأة في أربعينياتها بجانبي، وشاب بجانب السائق، لم أكد ألتقط أنفاسي وأحصل على القليل من الدفء حتى بدأت «الاسطوانة». لا ليست هذه المرة طربيَّة، أو ربَّما طربيَّة من نوعٍ آخر، بنكهة «غزَّاوية» تماماً: «الله حكى غالون السولار (المازوت) بـ80 شيكل؟ (كان بـ 30)! والله الموت أهون من هالعيشة».
في محاولة للتخفيف عن السائق، يقول الشاب الجالس في الكرسي الأمامي: «والله إحنا مقدرين الوضع، ومعلش إزا بتصير الأجرة بـ2شيكل، غريبة لسَّه إمبارح كان الغالون بـ70 شيكل... لحق يرتفع حقه!». أتأكدُ من موعد المُحاضرة التي تأخرت عنها أكثر من ربع ساعة، يا إلهي المُحاضرة في الطابق الخامس، هذا يعني برد لدرجة التجمّد. فَقَاعات هذا الطابق تحديداً، نوافذها مكسرة، لا أدري لماذا ندفع فوق الرسوم الجامعية مبلغاً و «قدره» للخدمات الطلابيَّة!
«ما بعرف شو الحكومة بدها منَّا! بتعرف كم واحد انتحر؟! اليوم، سوّاق صاحبنا بالمحطة ما رضوا يعطوه سولار، راح مسك خط السولار (أنبوب تعبئة البنزين) وشغله على حاله وعلى سيارته، والله مسكناه بآخر وقت، قبل ما يولع الكبريت بحاله! أي هادي بلد!». يرد الشاب وهو يضرب كفاً بكف: «لا حول ولا قوة إلا بالله، وصلت لهيك؟» تذكرتُ على الفور صورة الرجل التونسي الذي أشعل النار في نفسه، محمد البوعزيزي، رجل حرَّك بلداً بأكمله. وقد تكرر هذا الحدث في عدد من البلاد العربية، حتى وصل لنا، هذا الاختراع العجيب/ الانتحار، الذي من شأنه قلب البلاد وتغيير أنظمة حكم ديكتاتورية مُعمِّرة، إذن هل علينا الموت من أجل أن نحيا! وأيّ حياة بعد الموت! ثلاث حالات انتحار في الفترة الأخيرة، و363 محاولة أخرى فاشلة في غزة حتى الآن، فقط في الفترة التي تضاعفت فيها مشكلة الكهرباء حتى كادت تنعدم. وها هي أزمة السولار تُجدِّدُ الولاء للحصار والأنفاق والأزمات الخانقة. ربما كان معه حق ذلك الرجل الذي انتحر منذ ايام في جباليا. لكن، بيناتنا؟ ليست وصفة.