لم يكن خالد سعيد ابن الثمانية والعشرين عاماً، البعيد كل البعد عن أمور السياسة، يتصور أنه سيكون في يوم من الأيام أحد أبرز الأسباب في سقوط أباطرة النظام السياسي المصري واندلاع براكين الغضب في شوارع مصر. خالد سعيد لم يكن ناشطاً أو باحثاً أو مناضلاً، بل كان كآلاف الشباب العاديين في مصر. إلاّ أن وقوع أحد الأشرطة المصورة، الذي يُظهر تداول «كمية من الحشيش المضبوط بين ضباط قسم سيدي جابر» بين يديه، ونشره بين عدد من أصدقائه، جعله هدفاً لوحشية عنصري الأمن في القسم محمود الفلاح وعوض إسماعيل، اللذين أقدما على ضربه والتعدي عليه في ليلة الأحد 6 حزيران 2010 في الإسكندرية، ما أدى إلى وفاته داخل حي كليوباترا الذي يقطن فيه.
وحتى ذلك الحين لم يكن هناك شيء جديد عمّا يحدث في بر مصر من انتهاكات للشرطة وقتل، نتيجة السحل والضرب والتعذيب، سواء تجاه الناشطين السياسيين أو الحقوقيين أو غيرهم. إلاّ أن عوامل عدة صاحبت وأحاطت بملابسات هذه الواقعة، جعلتها تمثل نقطة تحول في مسار القضايا من هذا النوع، بل وتمثل نقطة تحول في تاريخ مصر ونظامها والمفاهيم السائدة فيها.
أول هذه العوامل، هو تلك الصورة التي التقطت بكاميرا أحد الهواتف المحمولة، قبل دفن جثة سعيد. وتظهر آثار الوحشية التي نالت من وجهه الجميل. وأدى انتشارها، مصحوبةً بصورته الأصلية عبر الإنترنت، إلى صنع حالة من التعاطف الشعبي والحقوقي مع القضية، ولا سيما أن سعيد ليس شخصاً سياسياً أو رمزاً حركياً يمكن تشويهه بأنه في عداء مع النظام أو طامع في سلطة أو جاه.
صاحب هذا العامل الانتشار الملحوظ لموقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» في مصر، والاستفادة من إمكاناته في الربط والتشبيك بين كافة أطياف المجتمع وصعوبة تتبّع مستخدميه. وأُسّست عقب وفاة سعيد بأربعة أيام، صفحة «كلنا خالد سعيد»، أسّسها وائل غنيم وساعده فيها الناشط عبد الرحمن منصور، لتكون منبراً تجمع فيه صرخات المخنوقين والمستائين من المدى الذي وصل إليه ظلم هذا النظام. وأثبت عدد المشاركين نجاح الفكرة، إذ تجاوز عددهم 200 ألف خلال العشرة أيام الأولى من إنشاء الصفحة. ومن هنا تضافرت العوامل السابقة بعضها مع بعض لتصنع بيئة غير مركزية يتداول فيها النشطاء والحقوقيون والمستقلون من كافة الأطياف هذه القضية، لتصبح قضية رأي عام بامتياز. هذا الأمر أربك النظام ودفعه إلى إطلاق حملة لتشويه القضية لدى الرأي العام. فتارةً سلّط الضوء على تهرّب سعيد من التجنيد، وتارةً سلّط الضوء على بعضٍ من طيش شبابه. لكنّ إنسانية القضية وبعدها عن الشق السياسي، منحاها حصانة ضد هذا الأمر، وجعل الناس تتندر على ما توصل إليه تقرير الطب الشرعي الأول، عن أن الوفاة حدثت نتيجة اختناق سعيد بعد ابتلاعه لفافة بانغو، والذي نقضه التقرير الثاني، مؤكداً أن الوفاة حدثت نتيجة استخدام القسوة وليس الخنق.
في موازاة ذلك، كان نجم المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، قد بدأ يظهر بقوة في المجتمع إلى جانب الحركات الشبابية غير المحكومة بأطر تقليدية، وتنتشر ثقافة وسائل الإعلام الاجتماعية وثقافة الصورة، ليمثّلوا نوعاً من حائط الصد والممانعة ضد آلة إعلام النظام، وأدوات ضغطه. فكانت زيارة البرادعي لمنزل سعيد في أحد أيام الجمعة بشهر تموز 2010، إيذاناً بأن تأخذ القضية بُعداً دولياً.
ومع الوقت، اكتسب أشخاص عاديون شجاعة من هذا الأمر. وتكشّف عدد آخر من قضايا الانتهاكات والتعذيب، كان أبرزها قضية سيد بلال، الشاب السلفي الذي تعرض للوفاة نتيجة التعذيب أثناء التحقيق معه ومع آخرين في حادثة التفجير الذي استهدف كنيسة القديسين بالإسكندرية، لتمثّل صورته التي التقطت بكاميرا الهاتف المحمول عاملاً مشابهاً يكشف مدى البشاعة التي وصل إليها نظام مبارك.
هذا كله، إلى جانب تزوير الانتخابات عام 2010 واتهام الداخلية في واقعة القديسين، أكسب الناس شجاعة البوح بصوت عال بما في صدورهم، فاستجابوا لنداء صفحة «كلنا خالد سعيد» بتحويل يوم «25 يناير»، عيد الشرطة في مصر، إلى يوم للغضب والاحتجاج. وهو ما حدث بالفعل، وأدى إلى ثورة الناس حتى رحيل مبارك في 11 شباط عام 2011. لكن الحكم بـ7 سنوات فقط على مرتكبي تلك الجريمة، واستمرار قيادات الشرطة في أماكنهم وتبرئتهم، فتحت باباً من الجدل بشأن التأثير في بنية النظام السابق، ولا سيما مؤسسته الأمنية، أدى إلى التأكيد أن تداعيات مقتل خالد سعيد لم تكن كافية لإسقاط النظام بأكمله، وأن النضال لنيل الحرية والعدالة لا يزال طويلاً.
وعن ظاهرة خالد سعيد يرى الباحث في وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية، محمد العربي، أن سعيد «لم يكن إلاّ أيقونة، وكل ثورة تحتاج إلى أيقونة تستتبعها أيقونات تولدها الأحداث». ورأى أن مقتل سعيد «دلالة جامعة على السبب الرئيسي الذي فجر ثورة يناير، وهو وحشية الشرطة وامتهانها لكرامة المواطن»، وهو ما أدى إلى «نجاح هذا الرمز في تعبئة الغضب الشعبي من الشرطة والنظام الذي تقوم بحمايته، فيما استدعى توحّش الشرطة توحّش سياسات النظام الاقتصادية والأمنية، وهو ما مثّل وقود الثورة الجاهز للاشتعال في أي وقت».
ونبّه العربي إلى أن دخول الثورة في متاهات السياسة وتجاذباتها «جعل الثائرين يتناسون القضية السبب في ثورتهم، فلم يكن أحد ليتحدث عن الشرطة وضرورة إعادة هيكلتها مع انفجار المليونيات والاستقطابات السياسة الفارغة، وهو ما أدى إلى تفريغ الرمز/الأيقونة من مضمونه».
وعن انعكاس قضية سعيد على المستقبل، لفت إلى أن «الحديث ما زال أسيراً للسياسة والنقاش بشأن استكمال الانتخابات الرئاسية، أو الاتجاه نحو المجلس الرئاسي ولجنة الدستور والصراع بين المجلسين الشعب والعسكري. وبين كل هذا وذاك، لن تحرك دماء الشهداء قبل الثورة وبعدها المتصارعين وتدفعهم نحو التوحد». وأضاف «كل الأيقونات تتلاشى. وتبقى منها الحكاية غير المكتملة عن الشاب الذي توفي جرّاء وحشية الشرطة».
أما على مستوى الحركات السياسية، فلم تنس حركة «شباب من أجل العدالة والحرية»، التي انطلقت من الإسكندرية، هذه الذكرى، فأصدرت بياناً ذكّرت فيه أن «الحرية ثمنها الدم». وأشارت الحركة إلى أنه بالرغم من مرور عام ونصف على قيام ثورة «25 يناير»، «لم تسقط دولة الظلم والاستبداد بعد، وما زالت تحكم بقضاء فاسد لا يعرف العدالة، وجهاز شرطة همجي لا يعرف سوى القمع».