قبل عامٍ من الآن، خسر السودان رسمياً جنوبه، بعدما فقده قبل سنوات عديدة تحت وطأة الحرب الأهلية والعجز عن استغلال سنوات المرحلة الانتقالية الست لتحفيز الجنوبيين على الإبقاء على وحدة البلاد. أما الجنوب، فحاز رسمياً انفصاله، وهو المنادي بهويته الثقافية المتميزة والمدافع عن فكرة استحالة التعايش مع الشمال.
هكذا، تشظى السودان إلى سودانين بعدما امتنع طرفا اتفاقية السلام «نيفاشا» عن القيام بأي جهد للحفاظ على وحدة البلاد. وعوضاً عن أن يكون انفصال الجنوب مقدمة لتحسين علاقة البلدين، تعمقت الخلافات أكثر، واقتربت الخرطوم وجوبا من الحرب الشاملة بعدما أصبح السلاح لغة التفاهم الوحيدة، وخصوصاً أن جولات التفاوض المتعددة لا تبدو أنها مثمرة في ظل غياب قرار جدي من قادة الشمال والجنوب بالتوصل إلى تسويات نهائية وشاملة للمواضيع الخلافية.
هذه المواضيع بات السودانيون يكررونها عن ظهر قلب، متحسرين على الوعود التي رددها المسؤولون في الشمال والجنوب على مسامعهم والقائلة بأن الانفصال سيحمل معه الرفاه والاستقرار لكلا البلدين. وعود لم تثمر إلا مزيداً من الخلافات والدماء، والتمرد، والمشاكل الاقتصادية.
فالحدود لم ترسم نهائياً، ليجد السودان نفسه أمام جنوبٍ جديد يتمثل في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. أما مشكلة أبيي فتفرعت لتولد معها مشكلة جديدة هي هجليج النفطية، بعدما استفاق الجنوبيون فجأة على أنها أراضٍ جنوبية وليست شمالية، محاولين إعادة سيناريو أبيي والتحكيم الدولي.
استفاقة ترافقت مع وصول المفاوضات حول النفط ورسوم عبوره إلى حائط مسدود. وبينما أصرت الحكومة السودانية على فرض رسوم باهظة مقابل السماح للجنوب بتصدير نفطه عبر موانئها نتيجة امتلاكها البنى التحتية النفطية، رفض الجنوب الرضوخ لـ«سياسة الابتزاز»، فصعّد من مشكلة هجليج، حارماً ـــ ولو مؤقتاً ـــ الشمال أبرز موارده النفطية، بعدما اتخذ قراراً بوقف تصدير النفط عبر الموانئ الشمالية، ليخسر البلدان أهم مورد للخزينة لديهما، مراهنين على سياسة عضّ الأصابع.
وبعدما كان كل طرف يتوقع أن يصرخ الطرف الآخر أولاً، ها هما البلدان يصرخان ألماً، أو هكذا على الأقل يفعل المواطنون. فالشمال غرق في مستنقع مشاكله، واقتصاد البلاد بات على شفير الهاوية نتيجة سياسات حكومية مهترئة، تجاهلت موارد البلاد المتنوعة من زراعة وماشية وذهب وركزت على النفط مورداً أساسياً قبل أن يحيل أيام السودان إلى سوداء بعد تفجر الخلافات بين الشمال والجنوب. وهكذا منذ انفصال الجنوب، يستفيق أبناء الشمال كل يوم على قرار تقشفي جديد، ضمن سياسة شد الأحزمة التي تكاد تخنق المواطن، الذي لم يجد بداً من الخروج إلى الشارع.
أما في الجنوب، فالحال ليست بأفضل على الإطلاق. شمس الحرية الموعودة لم تشرق. حجبتها سياسة السلطات القمعية والإقصائية، فيما الدولة الوليدة لا تزال تحبو. لا مشاريع تنموية حقيقية، ولا تبدل طرأ على حياة المواطنين. عدد الجياع والذين يعانون من نقص الغذاء في تزايد مستمر. فغدا نصف سكان الجنوب بحاجة إلى مساعدات غذائية تقيهم شر الموت جوعاً، وهو ما تجسد في تحذير وكالة الإغاثة الدولية «أوكسفام»، يوم الجمعة الماضي، من أن جنوب السودان يواجه أسوأ أزمة إنسانية منذ نهاية الحرب عام 2005 تحت وطأة الانهيار الاقتصادي الحاد والصراع الدائر والفقر. وبلغة الأرقام أيضاً، تسجل البلاد مستويات قياسية من معدلات التضخم، بعدما ارتفع منذ شباط قرابة الـ ٦٠ في المئة، ليبلغ 80 في المئة في شهر أيار الماضي.
وفي ظل هذه الأوضاع، ضاعت أحلام الجنوبيين الذين نزحوا من الشمال إلى الجنوب. لا مأوى يحتمون في ظله، ولا وظائف توفّر لقمة العيش ولا خدمات حقيقية تقي أطفالهم الموت في مخيمات اللاجئين، بعد أن وصل معدل الوفيات إلى ٨ أطفال كل يوم. بضعة أحياء ترتفع فيها بنايات حديثة وفنادق إلى جانب بضعة كيلومترات من الإسفلت تكاد تكون الشاهد الوحيد على وجود دولة في جنوب السودان.
الرئيس سيلفا كير ميارديت لم يجد مفراً من الصراخ عالياً، مطالباً المسؤولين في حكومته برد المال المنهوب. فمليارات النفط على مدى سنوات المرحلة الانتقالية إلى اليوم، لم تجد طريقها إلى خزينة الدولة، بل إلى جيوب المسؤولين. أما الجيش فعديده يأكل ميزانية الدولة، والنتائج المترتبة على تقليصه قد تكون أخطر من الإبقاء عليه. فهناك مئات الآلاف من الجنود لم يعرفوا في حياتهم مهنة سوى القتال، وتوقيف رواتبهم وتركهم لمصير مجهول سيضعانهم أمام خيارات محدودة، ليس أقلها التمرد أو التحول إلى قطّاع طرق.
الخلافات القبلية هي الأخرى لا تقل خطراً في تهديدها لاستقرار البلاد. نزعات الثأر والخلافات حول المواشي تحصد أرواحاً بات من الصعب إحصاء عديدها، فيما النساء والأطفال هم الضحايا الأكثر هشاشة. فالاغتصاب والاختطاف هما السمة المرافقة لجميع عمليات الإغارة القبلية جنباً إلى جنب مع حرق الأكواخ وتشريد المواطنين.
أما الحريات فحدث ولا حرج عن سوء أوضاعها. صحافيون يشكون سياسة كمّ الأفواه، معارضون لا يترددون في الحديث عن إقصائهم، ومنظمات حقوقية تصرخ مطالبة بتوفير أبسط الحقوق للمعتقلين. وهو وضع، دفع مجلس الأمن الدولي، إلى تأنيب «طفل المجتمع الدولي المدلل»، مطالباً جوبا قبل أيام بوضع حد لـ«الاعتقالات المديدة أو التعسفية» ومعاقبة المسؤولين عن التجاوزات، بمن فيهم عناصر قوات الأمن. وضع مأساوي اختصره الأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو، بعد عام على الانفصال، بمطالبته بضرورة أن يرى مواطنو جنوب السودان فوائد الاستقلال، وإلا فإن الحصاد سيكون «التوتر وأموراً لا نريدها أن تحصل».