التفجيرات التي هزّت المدن السورية منذ كانون الاول عام ٢٠١١، والتي قال النظام السوري إنها تحمل بصمات تنظيم «القاعدة» وأسلوب عمله، قوبلت بفتور غربي تضمّن تشكيكاً في الاتهامات الرسمية، لكن اللهجة الغربية بدأت تتغيّر منذ أشهر قليلة، وما كان يراه بعض المحللين والمسؤولين «تهويلاً مقصوداً من نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد»، بدا في كتاباتهم وتصريحاتهم اليوم واقعاً وحقيقة ميدانية بالأرقام و... بالصوت والصورة.
أشرطة الفيديو الآتية من سوريا ــ التي مثّلت المصدر الأساس للمقالات والتحليلات منذ بداية الأزمة ــ تغيّرت على نحو جذري بالنسبة إلى بعض المتابعين الغربيين: فالمقاتلون الذين جلسوا أمام الكاميرات يقسمون بأرواحهم على «تحرير سوريا من الطاغية الأسد» تحت راية علم الثورة السورية، حلّ محلّهم مسلّحون ملتحون يعلنون، تحت رايات «القاعدة» السوداء، «إقامة خلايا سرية للمضي في الجهاد» و«إسقاط النظام العلوي». «حتى إن كلام بعض قادة الجيش السوري الحرّ أنفسهم بدأ يشبه الى حدّ بعيد لهجة الجهاديين في بياناتهم».
ميدانياً، لم تعد الأخبار الآتية من محافظة إدلب تقتصر على «فصول سيطرة الجيش الحرّ على مناطقها»، بل باتت تحكي عن «انتشار مجموعات جهادية متطرفة بكثافة» وعن «رفع أعلام القاعدة في التظاهرات» و«تغيير الشعارات التي تهتف خلالها».
أخبار الجبهات الحدودية واضحة أيضاً، وصحافيو الحدود السورية ــ وخصوصاً الحدود مع تركيا ــ التقوا عشرات «الجهاديين القادمين من السعودية والامارات ومصر والعراق ولبنان والاردن وليبيا والمغرب العربي والشيشان والصومال وبنغلادش وباكستان...». ومن لم يلتقهم شخصياً تحدّث معهم عبر «سكايب».
حتى أخبار الخطف باتت تعلن صراحة عن الجهة الخاطفة: «جهاديون يتكلمون بلكنة إنكليزية خطفوا مصوّرين صحافيين أثناء عبورهما الحدود مع تركيا».
أسماء كتائب ومجموعات إسلامية جهادية عادت للظهور مجدداً مثل «جبهة النصرة لأهل الشام» و«كتائب عبد الله عزام» و«فتح الإسلام» و«أحرار الشام» و«كتائب البراء بن مالك» و«أسود السنّة» وغيرها...
«هكذا حلّت الرموز الدينية مكان الوطنية... ومن سخرية القدر أن ما كان يكرره الأسد منذ البداية حول حرب الجهاديين والمتطرفين بات أقرب الى التصديق اليوم»، علّق بعض الصحافيين.
الجهاديون هنا اذاً، فلم لا يعلن تنظيم «القاعدة» صراحة عن ذلك، ولمَ لا يتبنى العمليات التي يقوم بها؟ لم لا يزال المعارضون السوريون متمسكين بنفي الأمر وإنكاره؟ أين هم الجهاديون وكم عددهم؟ أسئلة كثيرة تشغل المحللين. بعض مصادر المعلومات الصحافية حول تحركات الجهاديين وأعدادهم استخبارية، وبعضها الآخر جاء على لسان مقاتلين ميدانيين في صفوف «الجيش السوري الحر»، كما أن بعض الصحافيين تحدّث مع الجهاديين وقابلهم وتعرّف على «جهادهم في سبيل إسقاط الكافر بشار».
الأمر «ليس مفاجئاً»، يكاد يجمع المحللون، إذ إن سوريا اليوم «هي مغنطيس جاذب لكل تلك المجموعات المتطرفة التي تحاول بناء قواعد لها في ظلّ الفوضى والأزمة المحلية». أضف إن «الشحن الديني المذهبي بلغ ذروته، والسلاح مؤمّن كالمال».

نموذج إدلب

«كما في الصومال والشيشان ومالي واليمن والعراق»، عدّد المحللون نماذج عن أرضيات خصبة استغلها الجهاديون ليثبتوا وجودهم فيها و«يقلبوا نزاعاً محلياً لصالحهم».
«القاعدة في العراق» هو المصدر الأساس لتصدير الجهاديين الى سوريا، يتفق معظم الصحافيين. «لقد كسبنا خبرة بقتال الأميركيين وسنكسب المزيد منها في الثورة السورية»، يقول أحد مجاهدي «القاعدة» في الحويجة قرب كركوك العراقية لمراسل «ذي نيويورك تايمز» الاميركية. «أملنا هو بإنشاء دولة سوريا ـــ العراق الإسلامية ثم إعلان الحرب على إيران وإسرائيل وتحرير فلسطين» يضيف الجهادي.
كاتب مقال الـ «تايمز»، رود نوردلاند، يذكّر، كما معظم زملائه، بكلام مدير الاستخبارات القومية الأميركية جايمس كلابر خلال شهادته أمام الكونغرس في شباط الماضي عن «أن الهجمات ضد مقار حكومية وأمنية في دمشق تحمل كل علامات أساليب القاعدة». نوردلاند يضيف إن «كلابر وشهوداً آخرين من الاستخبارات عزوا الأمر الى انتشار «القاعدة في العراق» داخل الاراضي السورية». نوردلاند يذكّر أيضاً بكلام زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري وثنائه على أداء الجهاديين في سوريا وتلقيبهم بـ «أسود المشرق».
الصحافي نيل ماكفاركر في «ذي نيويورك تايمز» أيضاً، كتب مقالاً مطوّلاً حول «تعاظم دور الجهاديين في الحرب السورية». ماكفاركر يقول إنه «في الأشهر الاخيرة شهدنا صعود منظمات مسلحة أوسع وأقوى وأكثر تنظيماً تتبنى أجندة جهادية». ويتابع «حتى إن الحركات الأقلّ حماسة أحاطت نفسها بهالة إسلامية معلنة لأن ذلك يجذب الأموال الداعمة».
الصحافي يعطي محافظة إدلب كمثال على انتشار تلك المجموعات الجهادية «بكثافة»، التي «شنّت هجمات كبيرة على أهداف حكومية هناك». ماكفاركر ينقل عن أحد قادة «الجيش السوري الحر» في سراقب قوله «إن تلك المجموعات تنمو على نحو سريع في إدلب وتزداد قوة ونفوذاً ولم نرد أن ندخل في علاقة متوترة معهم». ويروي المقال أن «المجموعة الجهادية طلبت من قادة أحد مجالس الثورة في المحافظة رفع علم «لا اله الا الله» خلال تظاهرات الجمعة، وبعدما رفض الثوار المحليون الأمر رفع الجهاديون العلم رغماً عنهم... ما سبّب بعض التوترات».
الضابط في الجيش السوري الحرّ في سراقب يروي للصحافي أيضاً أنه «عندما عرض على الجهاديين الانضمام اليه حصل اختلاف حول تسمية الكتيبة الموسعة، إذ إن الجهاديين رفضوا كل اسم يتضمن كلمة سوريا كرمز للوطن».
لكن الصحافي الاميركي يشير الى أن «الجهاد بات صرخة مميزة بين الحشود الهاتفة». ويستشهد ماكفاركر بشريط نشر على موقع «يوتيوب» يظهر فيه قائد الكتائب الموحدة حديثاً والمقاتلة في حلب يقول لمقاتليه «من لم تكن أهدافه لله فليبقَ في منزله، أما من سيقاتل لله، فليمضِ للجهاد ولتكتب له الجنّة». الـ «تايمز» كما غيرها من الصحف ومراكز الابحاث، تحدّثت عن ظهور لـ «القاعدة» في شمال سوريا «وخصوصاً في منطقة باب الهوا الحدودية مع تركيا».
رغم كل ذلك ينقل ماكفاركر عن بعض المعارضين السوريين قولهم إنه «لا دليل حسياً فعلياً على وجود القاعدة أو مقاتلين من جنسيات مختلفة على الجبهات السورية، وإن وجدوا فأعدادهم ضئيلة جداً».
لكن معظم المحللين وبعض الصحافيين الميدانيين التابعين لوكالات الأنباء العالمية أكدوا وجود جهاديين من جنسيات عربية وأوروبية وأفريقية، وأجروا مقابلات معهم.

من المغرب والشيشان وباكستان

هارون ي. زيلين، كان قد أشار في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» منذ حزيران الماضي إلى أن «مقاتلين أجانب يتسللون للمشاركة في الثورة السورية». وقدّر نسبة هؤلاء بـ ٤ الى ٧٪ من مجموع المقاتلين في سوريا. زيلين يعدد البلدان التي أتى منها المجاهدون الى سوريا. ويقول إن أكبر الوحدات الوافدة ضمّت لبنانيين وأردنيين وعراقيين وفلسطينيين ممن قاتلوا في حرب العراق. وثانية أكبر الوحدات، جاء مقاتلوها من شمال أفريقيا. زيلين يشرح أن بعض تلك المجموعات الجهادية «على علاقة وتنسيق مع الجيش السوري الحرّ»، أما البعض الآخر، «فيعمل على نحو مستقل بصفة جهادية بحتة».
يخلص المحلل إلى أنه على الرغم من حجمهم البسيط نسبياً فإن ظاهرة الجهاديين في سوريا «تستحق النظر والمراقبة ـــــ فالمقاتلون الأجانب في سوريا لم يشكلوا قوة معلومة حتى الآن، لكن كلما استمر الصراع وزادت محاولات الجهاديين للمشاركة في القتال، زادت أرجحية أن يكون لهم نفوذ يتجاوز حجمهم وقدراتهم الفعلية». لذا، يطلب المحلل من واشنطن «أن تعمل مع حلفائها في تركيا ولبنان والأردن والعراق من أجل حماية الحدود من أعمال التسلل، وأن تتعامل مع الخطابات المتطرفة المنبعثة من المملكة العربية السعودية، حيث يقوم بعض رجال الدين السعوديين بتحريض الأفراد على شن حرب جهادية شعواء على نظام الأسد».
وفي هذا الإطار، يلفت باتريك برينين، على موقع «ذي ناشيونال ريفيو»، الى أن «العوامل التي تسمح للجهاديين بالاندساس في سوريا اليوم هي التي ستحدد أهمية دورهم في مرحلة ما بعد سقوط الأسد».
ظاهرة الجهاديين الأجانب في سوريا، أكدها قبل أيام المصور الألماني الذي أطلق سراحه بعدما خطف مع مصوّر بريطاني من قبل إحدى المجموعات الجهادية على الحدود السورية ـــــ التركية. «أحد الجهاديين داكن البشرة صرخ قائلاً هؤلاء صحافيون وسيعلمون أننا نحضّر للجهاد في هذا المكان»، يذكر المصور في حديث صحافي. «معظم الخاطفين قالوا إنهم من بنغلادش وباكستان والشيشان، وأغلبهم تكلّم بلكنة إنكليزية واضحة ومتقنة، ووعدوا بتطبيق الشريعة في سوريا وتحويلها الى دولة إسلامية بعد سقوط الأسد»، يضيف المصوّر.
«كيف لا يكون الجهاديون والمقاتلون الاجانب جزءاً من صورة المعارك السورية الآن؟»، يسأل الباحث في «مجموعة الأزمات الدولية» بيتر هارلينغ في حوار على موقع «مجلس العلاقات الخارجية». هارلينغ لا يبدو متفاجئاً أبداً بمشاركة الجهاديين في المعارك السورية، إذ يرى أن «قتال نظام علوي، وغياب أي أيديولوجية واضحة وموحدة في صفوف المقاتلين المعارضين، وعدم التدخل الغربي، وإغداق الأموال الخليجية» عوامل أدت الى «تطرّف الصراع القائم في سوريا حالياً، وجذب الحركات الجهادية»، لكن هارلينغ متفاجئ من «عدم تصاعد دور الجهاديين حتى الآن». وهو يعزو السبب الى أنهم «تعلموا الدروس من تجربتهم في العراق، حيث أدى ارتكابهم للجرائم الكبيرة المتكررة الى نهايتهم».