الإسكندرية | كان سائق سيارة الأجرة يسير مسرعاً متجهاً من طريق الحرية إلى طريق الكورنيش في منطقة الشاطبي في الإسكندرية قبل أن يقوم بالتهدئة ويتوقف، ليس خوفاً على الركاب أو احتراماً لقوانين المرور، بل لعبور جنازة من جانبه. فلا شيء يبعث الهيبة أو يلفت انتباه المصريين مثل الموت. كيف لا وهم أحفاد الفراعنة الذين قدسوا الموت وجعلوه محور العديد من أبنيتهم الشامخة على مر العصور. كانت الجنازة المارة بجوار السائق تتجه نحو مقابر جمعية التوفيق والثبات القبطية، التي تقع في شارع أنوبيس، إله التحنيط عند القدماء المصريين، لكن أياً من الركاب أو السائق، لم يكن يعرف أنه في وقتٍ ليس ببعيد كانت تعرف هذه المقابر باسم «مقابر اللادينيين». كانت «يافطة مقابر اللادينيين» معروفة لكثير من الإسكندريين، قبل ثورة يوليو 52 ولفترة وجيزة بعدها، قبل أن يقوم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بحل الجمعيات الماسونية وإلغاء اعتراف الدولة بها، حيث كانت المقابر ملكاً لواحدة منها ويدفن فيها أعضاء هذه الجمعيات والبهائيون وجماعة شهود يهوه ومن لا يعرف لهم هوية دينية محددة من الجاليات الأجنبية التي كانت موجودة في مصر قبل عام 1952 وبعض من اللادينيين.
وقد آلت هذه المقابر في الستينيات إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، لتنتقل بعدها المقابر كحق انتفاع لجمعية التوفيق والثبات في السبعينيات، عندما كان جورج روفائيل، رئيس الجمعية، عضواً معيناً في مجلس الأمة وقتها.
ومع تجدد الجدل من وقت لآخر حول خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي وظهور لادينيين وبهائيين والإعلان عن أنفسهم، تختصر احدى السيدات من أتباع اللادينيين، فضلت التعريف عن نفسها بـ«د. أ.ج»، واقع طائفتها بالقول «تخيل لم أكن أعرف أن هناك مقابر لللادينيين»، لكنها تتابع «كلادينية لا يعنيني أين أدفن فمن الممكن أن يذهب جسمي لأي دراسات أو أعضاء لأي مريض، فلن تفرق طريقة الدفن أو مكانه أو طقوسه، لكن إذا لم يستفد منه أحد، أو أخذ الأجزاء التي يريدها، فأفضل حرق جثتي».
وعن فكرة وجود مقابر للادينيين فإنها تراها «معبرة عن تقبل الآخر بأكثر من كونها مجرد طقوس أو مكان، وهذا ما يجعلني أتمنى رجوعها». وترفض أن يكون هناك خانة للديانة بالبطاقة مبررة الأمر بالقول «أنا ضد وجودها كعلمانية، وليس لأني ملحدة فقط، فهذا أمر شخصي وليس من حق أحد أن يعاملني على أساسه، وكخطوة تمهيدية للوصول للزواج المدني». وتتابع «كنت قد رفعت قضية مع صديق لإلغاء خانة الديانة لكنها ذهبت أدراج الرياح».
أما عن سلوكها في رمضان، فتقول «كنت دائماً ألاقي تعليقات سخيفة على الرغم من معرفة الجميع بوجود أسباب صحية تجبرني على الإفطار حتى لو لم يكن هذا مبدئي. لكن لم أكن أسلم من تعليقات، اعتدت الرد عليها بقساوة». وتضيف «عندما أكون خارج العمل، أبحث عن المحال المفتوحة وأطلب الطعام رغم العيون المستغربة».
أما سمية شريف، فتقول إنها لا تهتم إن كان هناك مقابر للادينيين أو لا «لأنني لا أهتم بشيء بعد الموت». وترى سمية أنه لا داعي لوضع خانة الديانة بالبطاقة، لأن التعامل في إطار المجتمع يجب ألا يتدخل فيه الدين، أما إذا كان ولا بد من ذكره «فيوضع للادينيين (شرطة)».
وعن الأحوال الشخصية، تشير سمية إلى أنه «لا يهم أن يذكر، لأن اللادينيين لا يهتمون بأي طقوس، فهم يتبعون القوانين السائدة في الدولة، فمثلاً في حالة مصر، على الملحد أن يتبع قواعد المجتمع في الزواج والطلاق والميراث لأنه لا يوجد لديه أي طقوس، لكن يفضل أن يتبع قوانين مدنية مثل إمكانية الزواج المدني».
أما بخصوص رمضان، فتؤكد شريف أنها تقوم بقضاء اليوم في رمضان مثل أي يوم في السنة مع الاستمتاع بالروحانيات والجو الجميل وسط الاصدقاء سواء أكانوا مسلمين أم ملحدين، وفي النهار أقوم بجلب حاجياتي من أي مكان مع مراعاة أن تكون ملابسي لائقة بشهر له اهتمام خاص عند المسلمين والمصريين عموماً. وتضيف «أحياناً كثيرة أدعى من قبل أسرة مسلمة للإفطار وبالطبع أقبل الدعوة وأرحّب، لأن اليوم يكون مميزاً عن باقي الأيام».
أما عن تناول الطعام في رمضان، فتؤكد شريف «أنها لا تأكل إلا في مطاعم مغلقة أو في المنزل قبل الخروج»، مشددةً على أن ما تقوم به «ليس خوفاً من الناس أن يكشفوا هويتها ولكنه احترام لمشاعر الصائمين».
الباحث والمترجم محمد .ث، يرى أنه لا مشكلة في اختفاء مقابر اللادينيين لأنه «ليس ضرورياً أن يكون هناك مقابر للطوائف أو العقائد أو اللاعقائد، فهذه فكرة تصنيفية وبالتالي إقصائية، فالأنسب أن يكون هناك مقابر للعائلة بكل أفرادها مهما اختلفت معتقداتهم».
وعن دفن اللادينيين، يرى محمد أن طقوس دفنه «يفترض أن يكون الغالب عليها هو عنصر الحرية واحترام اختياره أو وصيته، فممكن أن يطلب اللاديني حرق جثته ونثر رمادها، وممكن أن يطلب التبرع بأعضائه أو يطلب تجميده، وممكن أن يطلب دفنه على غرار أهله سواء في الأرض مباشرةً أو في تابوت».
لكن ما يؤكد عليه محمد أنه لا يفضل «التلاوات والغسل والتكفين وبقية الطقوس الدينية للحظة الموت لأني لست مؤمناً بها»، فضلاً عن أنه يعتبرها «خرقاً لخصوصيتي في آخر لحظة تواجد مادي لي على الأرض». ويستشهد محمد بقول الفيلسوف الألماني نيتشه لأخته «أختاه، حين أموت امنعي ذلك القس من تلاوة تعاويذه عليّ لأنني سأكون أضعف كثيراً من أن أردها عليه».
ويحلم محمد «بمصر خالية من خانة الديانة»، مشيراً إلى أن «الأوراق الثبوتية مهمة في مجتمعنا للأسف، لأننا مجتمع إقصائي تصنيفي، وبدونها أمور كتير بتتعطل». ويضيف «لذلك هناك لادينيون كُثر يفضلون أن يكتب في بطاقتهم وفي شهادة وفاتهم أقرب ديانة لمعتقدهم أو آخر ديانة كانوا عليها أو ديانة الورثة في حالة كونهم مسيحيين غير مشتركين في الملة لتجنب الاحتكام للشريعة الإسلامية».
وفي مجتمع مثل مصر، يحظى فيه رأي رجل الدين بأهمية، يقول الشيخ أسامة فتوح، المتحدث باسم ائتلاف العلماء والدعاة في الإسكندرية وعضو الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، «إن الإسلام يحترم حرية العقيدة للإنسان حياً وميتاً، فيصبح دفنه في مقابر الملة أو الدين الذي يتبعه امتداداً لما كان عليه في الدنيا من اتباع لهذا الدين أو المعتقد».
ويشير فتوح إلى أن «كل رجال الدين في أي معتقد لا يسمحون بدفن المخالف لهم في المعتقد في مقابرهم، لذا فالإفصاح والجدل بالتي هي أحسن خير من التكتم وما يترتب عليه من إشكاليات تتعلق بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث وغيرها». ويؤكد فتوح أن «الإسلام يسمح بما يخالفه، ولكن لا يقره. فمواجهة الفكر يجب أن تكون بالفكر والجدل بالجدل، فهذا أفضل من أن نعيش في حالة نفاق عامة».
أما الأب لوقا عبد المسيح، راعي كنيسة العذراء الأرثوذكسية في جناكليس، فقال «الله وحده هو الديان، فكل إنسان يفكر ويختار ما يشاء، فلا أكفّر أحداً ولا أحكم عليه، وإن كنا نتمنى لكل الناس الخير، فمهمتي في مسائل الموت أن أعلم أبناء كنيستي كيف نصلي وكيف ندفن، ولا أفتش وراء أحد». ولفت إلى أنه «لا يوجد قانون ينظم الدفن، فالأمور القلبية يتحمل كل شخص مسؤوليتها». وشدد على أن «المسيحية ديانة محبة وتسعى لقبول الآخر».
من جهته، يرى الباحث في علم الاجتماع السياسي، إسماعيل الإسكندراني، أن وجود مثل هذه المقابر هام جداً «للخروج من حالة النفاق الاجتماعي التي نعيشها»، ولا سيما أن بعض اللادينيين يعلنون عن اعتقاداتهم في مواقع التواصل الاجتماعي. وأضاف «الأفضل أن يعلنوا عن أنفسهم وأن يدفنوا في مدافن اللادينيين، لأنه إذا كان ثمة خوف على شيء فيكون على الأحكام المتعلقة بالشريعة في المواريث والدفن والزواج وهي موضع إجماع ومتفق عليها، فالأولى السعي لتطبيقها بشكل صحيح بدلاً من دفع المجتمع إلى نفاق يدفع اللاديني لإخفاء هويته ويتورط المجتمع في مشكلات أكبر».



تراجع سماحة المصريين

سليمان شفيق، الباحث في شؤون المواطنة، يرى أن وجود مقابر للادينيين في الإسكندرية كان «انعكاساً لسماحة المصريين، لكنها أصبحت غير موجودة، فأصبحنا نفرق حتى بين الفرق الدينية وبعضها من داخل الدين الواحد، على الرغم من طغيان مظاهر التدين على المجتمع كله».
أما عن فكرة ماذا يريد اللادينيون بعد الموت، فيرد سليمان بالعبارة الشهيرة «ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها»، مفسراً ذلك أن اللاديني تظهر فكرته في التعامل مع جثته بعد الوفاة حين يكتب وصيته، لافتاً إلى أن الأسر المصرية لا تقبل أن يكون بين أبنائها شخص غير منتم للدين، وتعتبره نوعاً من العار. ويضيف «نادراً جداً ما تجد وصية اللاديني تنفذ بعد وفاته». وعن فكرة وجود إلغاء خانة الديانة من البطاقة، أعتبر أن هذا أصبح أمراً مضحكاً في ظل مجتمع طغت فيه مظاهر التدين.