أحدث العدوان الإسرائيلي على غزة ــ وردّها الشجاع ــ الكثير من الخلط والتخليط في المشهد الإقليمي. الخلط مفهومٌ لكونه يرتبط بتعقيدات موضوعية؛ غزة ليست كلها حماس، وحماس ليست كلها قَطرية، ولا يزال هناك حسابات أمنية وسياسية لا بد من تسويتها مع القطاع المضطرب بين مشروعين: مشروع إقامة «دبي» فلسطينية متصلة بمصر ـــ كجزء من تسوية الانفصال عن ضفة غربية متصلة بالأردن ـــ ومشروع المقاومة. والمفارقة أن كلا المشروعين يستلزمان الرد العملي نفسه؛ فالذاهبون إلى مناخات التسوية يحتاجون إلى تحسين شروط الهدنة الطويلة المدى (واقعياً = التسوية) بما يكفل الإطار الأمني والسياسي لإمارة غزة المزدهرة، بينما المصرّون على بناء القطاع المقاوم تحيّنوا الفرصة لتقديم النموذج المستقبلي الذي يريدونه. وهكذا، قامت على الأرض المشتركة لهدفين متناقضين، «غرفة عمليات موحدة» ضمّت التيارات والفصائل المتصارعة سياسياً.
«النصر» في غزة قد يقود إلى سادات فلسطيني آخر أو إلى تجربة تقارب تجربة حزب الله في لبنان. صوت حماس حتى الآن هو صوت خالد مشعل الذي أعاد التأكيد، مجدداً، على خياراته السياسية مع الحلف الخليجي التركي الأميركي، بما في ذلك تكرار التذكير بالخلاف مع إيران في الملف السوري. يعيدنا موقفه هذا إلى السادات الذي كان يصنع «نصره» في «اكتوبر» الـ 73 بالأسلحة الروسية، بينما يشتم موسكو، ويغازل واشنطن، ويرتّب للصفقة المقبلة معها.
«السادات» شخصية محببة لدى الإخوان المسلمين. وليس بالمصادفة أن الرئيس الإخواني المصري، محمد مرسي ـــ الذي قاطع ذكرى جمال عبد الناصر ـــ منح ذكرى السادات، أعلى وسام مصري. وليست مأثرة «الرئيس المؤمن» الرئيسية، عند الإخوان، أنه أعادهم إلى مصر ومكّن لهم في منتصف السبعينيات، وإنما تكمن مأثرته الكبرى في نموذجه السياسي «البلدي»، شبه الأمي، المحافظ في الثقافة والنيوليبرالي في الاقتصاد، و«الواقعي» ـــ الفهلوي في السياسة، والشعبوي في الأداء. وهذا هو، في النهاية، ما يصبو إليه مرسي وما يُلهم مشعل.
هنا، نأتي إلى التخليط الذي انحدرت إليه مواقف وفضائيات وصحافة قوى الممانعة؛ حفلة تستخدم اللحظة الساخنة الراهنة لإلغاء العقل والحس النقدي والسعي الجبان لتجاهل التناقضات أو تمييعها بين معسكرين تحددا بالدم في مأساة سورية؛ معسكر المقاومة ومعسكر الرجعية.
مرة أخرى، عادت المواقف ووسائل الإعلام التابعة لخط المقاومة لتروّج الأوهام حول مصر الإخوانية ودورها الإقليمي، وتبيعنا رجعيين من أزلام قَطر، كـ«مقاومين» يعطوننا دروساً في «الربيع العربي» وأثره في دعم مقاومة الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل، بل وفي تمجيد الدوحة والتعريض بدمشق، وفي أحسن الأحوال، السعي إلى عزلها جانباً كملفّ خلافي مع إيران وحزب الله!
لن نتوقف، هنا، طويلاً عند الحقيقة البسيطة المتجاهَلة المتمثّلة في أن قدرات المقاومة الغزية، جميعها، جاءتها من إيران وسوريا وحزب الله، لا من الإخوان أو قَطر أو تركيا، لكننا سنضع النقاط على الحروف في ما يتصل بثلاثة عناصر رئيسية؛ (1) إن القدرات التسليحية ـــ حتى المتاحة منها في السوق ـــ لا تنتظم وتتراكم ـــ للحركات كما للدول ـــ إلا في سياق سياسي. وقد حدد مشعل وسواه من المتحدثين باسم حماس، سياقهم السياسي في عباءة قطر، وقَطر حدّدته، بدورها، كحظيرة «نعاج»، (2) إن مصر الإخوانية لا تختلف، نوعياً، عن مصر المباركية، فجميع الإجراءات الدبلوماسية والإنسانية التي أقدم عليها مرسي كان مبارك سبّاقاً إليها. الفارق بالرئاسة المصرية، كما يصفه قيادي حمساوي (علي بركة على الميادين)، هو كالآتي: «مبارك كان ينقل رأي إسرائيل إلى حماس، أما مرسي فملتزم بنقل رأي حماس إلى إسرائيل». يا للهول! أصبحت القاهرة، بعد ربيعها الهادر، وسيطاً نزيهاً بين الإسرائيليين والفلسطينيين! (3) إن تيار المقاومة داخل حماس والجهاد الإسلامي لم يعبّر عن نفسه سياسياً حتى الآن، ولا أظنه بقادر على التعبير عن نفسه وسط السُّعار المذهبي الحاصل. ولقد رأيته مهيناً التغني من قبل وسائل إعلام المقاومة، بتصريح يتيم ومبتور لقيادي في الجهاد الإسلامي، يقدم فيه الشكر لإيران على دعمها العسكري، ولا يذكر، في هذا المقام، سوريا أو حزب الله. معنى ذلك أن تيار المقاومة في غزة جهاز عسكري وليس تياراً سياسياً. إنه محكوم، إذاً، بالتراجع. فالمقاومة، قبل كل شيء، هي انحياز سياسي استراتيجي.
وحده، حسن نصر الله، نجا من الخلط والتخليط، لكن بحياء لا بحسم. صحيح أنه رسم الخط الفاصل بين استراتيجية «النعاج» التي تتبناها الرجعية، واستراتيجية «الأسود» التي تتبناها المقاومة، لكنه استحى أن يواجه القيادات الغزيّة بالاختيار بين الاستراتيجيتين. وصحيح أن نصر الله طالب بالاعتراف الصريح بدور محور المقاومة، إيران وسوريا وحزب الله، في تمكين غزة من الصمود والمواجهة، لكنه وضع مطالبته هذه في مقاربة أخلاقية، من دون أن يوضّح جوهرها السياسي.
آه... أكلّ هذا التخليط المهين والحياء الرصين حدث بسبب أن محور المقاومة صادف أنه «شيعي»، فهو مضطرٌ، إذاً، للتسلل والاعتذار والجلوس في المقعد الخلفي وانتظار نعمة الشكر، وربما الخازوق؟