من سمع خلال الأيام القليلة الماضية تهديدات وتحذيرات إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموماً للنظام في سوريا من مغبة استخدام السلاح الكيميائي، يظن أن الامور قد انفلتت بالفعل في هذا البلد، وأن نظام الرئيس بشار الأسد بات قاب قوسين أو أدنى من سقوطه. مسارعة تل أبيب وواشنطن وعواصم غربية عديدة، وفي توقيت واحد، إلى تحذير الاسد من استخدام السلاح غير التقليدي، ظهر وكأن اليد وضعت بالفعل على زناد هذا السلاح، ولم يتبق إلا حركة صغيرة من الأسد لينطلق هذا السلاح متجهاً الى أقصى الشمال في تركيا، وأيضاً الى أقصى الجنوب في إسرائيل، وأيضاً بالتبعية، الى الداخل السوري نفسه.
هي زوبعة تهديدات أنذرت بقدوم عاصفة تدخل عسكري غربي وشيك، لكنها تركت للأسد تقرير ذلك: امتنع عن استخدام سلاح يوم الدين الخاص بك، كي نمتنع عن استخدام سلاح يوم الدين الخاص بنا. وسلاح الغرب وإسرائيل هو التدخل العسكري المباشر لإسقاط النظام.
أضافت تل أبيب الى التهديدات الأخيرة بعداً آخر وصل الى لبنان، بعدما هدد رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، بأنه سيدرس القيام بعملية عسكرية إذا وقعت الاسلحة الكيميائية السورية في أيدي منظمات «إرهابية»، وهو نفس التهديد الذي أطلقه في الماضي القريب وزير الدفاع الاسرائيلي، ايهود باراك.
برز خلال الازمة السورية هبة شبيهة، بعد أشهر قليلة من بدايتها. في حينه، كان الاعتقاد السائد لدى إسرائيل والغرب أن أيام الأسد باتت معدودة. وبحسب تعبير باراك في حينه، فإن «أسابيع فقط تفصل عائلة الاسد عن السقوط». وبموجب هذا التقدير، الذي جرى الإصرار عليه طويلاً، والى حدود العناد قبل التراجع عنه، اتضح أن المعطيات الاستخبارية عن الداخل السوري لم تكن صحيحة، أو بعبارة أدق، لم تكن كاملة، وما انفلت منها كان من شأنه أن يغيّر النتائج المتوقعة.
هل باتت الاستخبارات الإسرائيلية والغربية، في هذه المرحلة، أكثر دراية واطلاعاً على ما يجري في سوريا، قياساً بالماضي، الأمر الذي يمكنها من التقدير السليم، ومن ضمنه أن النظام سيسقط قريباً، وأنه مقبل بموجب السقوط القريب على استخدام السلاح الكيميائي الموجود في حوزته؟ لا شك في أن الاستخبارات الغربية على دراية كبيرة جداً بما يجري في سوريا. لا شك في أن المعطيات الميدانية عن التموضع العسكري وعن السيطرة والتحكم وانتشار القوى وميزان القدرات والوسائل القتالية، لكل الأطراف المتحاربة في سوريا، غير بعيدة عن متناول الاستخبارات الغربية وإسرائيل. من الصعب ألا يكون المشهد الميداني مبسوطاً وموضّحاً بدقة أمام طاولة التقديرات الاستخبارية الغربية، وخصوصاً أن الجزء الاكبر من القدرات والخطط والتحركات العسكرية، إما معلومة مسبقاً وموافق عليها من قبل الغرب، أو أن الغرب نفسه هو الذي حركها نتيجة لقرار منه. الغرب وإسرائيل ليسا لاعبين محايدين ومراقبين وحسب، بل هما في أصل المواجهة وجزء لا يتجزأ منها، وإن كان بصورة غير مباشرة.
إذاً ما هي الدائرة التي تنفلت في كل مرة من الغرب وإسرائيل، وتمنع الاستخبارات من الوصول الى تقدير سليم لمآلات الأمور؟ وهل هذه الدائرة مستعصية الى هذا الحد، كي لا يجري احتواؤها رغم مرور ما يقرب من عامين على بدء الحرب في سوريا؟ ليس من المستبعد أن الاخطاء الاستخبارية الاخيرة حيال الساحة السورية، ومنها كما يبدو الخطأ التقديري الاخير المرتبط بقرب استخدام السلاح الكيميائي، عائد الى الإفراط في الاعتماد على المصادر والمعطيات التي تراعي تطلعات وآمال المشغّلين في الاستخبارات، إذ تحرص المصادر الاستخبارية على إعطاء صورة تتوافق مع تطلعات مشغليهم. إضافة الى ذلك، يوجد نوع من الضبابية وعدم اليقين حيال قدرات النظام في سوريا، وبينها القدرة على المناورة الميدانية، وفي نفس الوقت تضخيم في غير محله لقدرات الحلفاء والأدوات على الارض، وبينها عدد من قوى المعارضة المسلحة.
على أي حال، معارك الايام القليلة الماضية من شأنها أن تشير الى أن معركة إسقاط العاصمة السورية، دمشق، من بوابة مطارها وريفها، لا تزال بعيدة المنال، كما تشير الى أن النظام لا يزال ممسكاً بالمبادرة الميدانية، وقادراً على توجيه ضربات مؤلمة إلى أعدائه، وبالتالي إبعاد رياح الخطر عنه، التي عدّها البعض إشارة النهاية للنظام. لا يعني ذلك أن قدرة الحسم باتت موجودة، سواء من جهة النظام أو من جهة معارضيه، لكن في الواقع السوري والاحتراب الدائر لا يمكن إسقاط قواعد وحسابات المنطق والرياضيات، وتوقع النتائج بناءً عليه. واحد زائد واحد لا يساوي اثنين في هذه الازمة، إذ تتدخل عوامل وظروف ومصالح ومحفزات كثيرة جداً ومعقدة، تجعل من التوقع والتقدير الاستخباري العلميين نوعاً من التنبّؤ والتعبير عن الآمال، أكثر من كونه تعبيراً عن واقع بات ملموساً.
واقع سوريا معقد للغاية، الى درجة أن إرادة الفعل لا تعني أن الفعل سيتحقق واقعاً، كما أن النتائج المحققة ليست بالضرورة تعبيراً عن إرادة وخطط كانت معدّة مسبقاً، وجرى تنفيذها بناءً عليها.
الإشارة الصادرة أخيراً عن المحافل الغربية وإسرائيل، أي التحذير والتهديد من مغبة استخدام السلاح الكيميائي، تحمل حقيقة واحدة لا يمكن الخطأ فيها: لا نية للتدخل العسكري المباشر في سوريا. الأمر لا يمكن التعويل عليه، رغم أن الكثيرين لا يزالون حتى الآن، يعوّلون عليه.