الجزائر | كانت الساعة تُشير الى الثانية حين وصل الموكب الرئاسي الذي يحمل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وضيفه الفرنسي فرانسوا هولاند و200 من مرافقيه، الى وسط العاصمة. كان آلاف من الرجال والنساء والأطفال خصوصاً، يحتشدون على الأرصفة منذ الصباح لإظهار المدينة بوجهها الكريم المضياف. وكانت حركة السيارات قد توقفت منذ مدّة، ما سبّب اختناقاً غير مسبوق في الأحياء المجاورة لمنطقة «الحظر». وسط العاصمة بدا في شكل جميل جداً وأنيق؛ حدائق متدرجة ومتناثرة تمتد على ظهر ربوة يتوسطها المبنى الضخم للوزارة الأولى، الذي كان مقرّاً للحاكم العام الفرنسي زمن الاحتلال. ومن شرفة هذا المبنى أطل الجنرال ديغول في عام 1958، وألقى خطاباً يذكر منه الجميع عبارته الغامضة «لقد فهمتكم»، التي وجهها للمستوطنين وللجنرالات الفرنسيين الذين انقلبوا عليه وللجزائريين أيضاً. وتنتهي الربوة في الأعلى بمباني وزارة الدفاع وفندق الأوراسي، أكبر فنادق المدينة.
وتتخلل الحدائق الغنّاء شوارع كبيرة بأسماء الشهداء، ديدوش مراد والعربي بن المهيدي وعميروش وحسيبة بن بوعلي وزيغود يوسف، تزينها أعلام جزائرية وفرنسية، عُلّقت ليلة وصول فرانسوا هولاند. وعلى طول الطريق، بين مطار هواري بومدين الدولي ووسط العاصمة، انتشرت جموع المستقبلين من العمال وأطفال المدارس، بعضهم من المدينة وكثير منهم نقلتهم قطارات وحافلات من الولايات الأخرى لتضخيم الحشد. وقد زُيّنت هذه الطريق الكبيرة بألواح تحمل صور الرئيسين وآلاف من رايات البلدين.
هذا الجوّ الجميل عكّره حادث غريب، سرق من تلك الحشود الاهتمام بالزيارة. حريق مهول أتى على مبنى اتصالات الجزائر الواقع في قلب مدينة الجزائر، وعلى مسلك الموكب الرئاسي. الحريق أتى على المقر الكبير وانتقل الى مبنى البريد المركزي، أجمل وأفخم مباني العاصمة، واضطرت السلطات إلى إجلاء سكان عمارتين مجاورتين وصلتهما ألسنة اللهب.
والتفت الجميع إلى ما يجري وتساءلوا إن كان الأمر يتعلق بمؤامرة للتأثير على الزيارة أو مجرد حدث عرضي صادف «من سوء الحظ» وجود الرئيس الفرنسي، سبّبه إهمال العمال الذين اشتغلوا في المبنى عدة أسابيع لترميمه وتلميعه حتى يكون في مستوى الحدث الكبير. وصل الموكب إلى المكان ومرّ بسلام إلى شارع زيروت يوسف، المطل على الميناء والمحطة المركزية لسكة الحديد، وكلاهما موروث عن العهد الاستعماري، وبقيا بشكليهما كما كانا قبل 50 عاماً، حين غادر مئات الآلاف من الأوروبيين الجزائر هاربين يجرّون الخيبة بعد هزيمة ما يزيد على مليون ضابط وجندي فرنسي أمام ثوار الجزائر.
مئات الآلاف من العسكريين والمدنيين ومن مختلف الأعمار، حملتهم البواخر من هذا الميناء باتجاه جنوب فرنسا، في واحدة من أضخم عمليات «الترحيل العاجل» في العالم المعاصر، بين 19 آذار 1962، تاريخ وقف النار، والخامس من تموز، تاريخ إعلان قيام الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية بعد استفتاء تقرير المصير. وفي هذا الشارع يوجد مقرّ البرلمان، الذي كان زمن الاحتلال مقرّاً للمجلس البلدي، وعلى مقربة منه مقرّ مجلس الأمة (الغرفة العليا)، الذي كان مبنى تابعاً للحاكم العام الفرنسي.
المشهد العام بعد خمسين عاماً من استقلال الجزائر عن فرنسا يذكّر بأن ثمة تاريخاً قوياً وعنيفاً وجميلاً أيضاً بين هذين البلدين. أسماء الشوارع والساحات والمباني شاهدة على ذلك، ومن صمّمها وبناها فرنسيون اعتقدوا جازمين أنهم سيبقون الى الأبد، بدليل أن تلك البنايات هي الأضخم والأجمل والأهم في البلاد، وحتى الآن تؤوي أهم المقار الحكومية.
لكن مع هذا نجح فرانسوا هولاند والفريق العامل معه، لأول مرّة في تاريخ العلاقات بين البلدين، في بلورة جدول أعمال لزيارة يغيب عنها التاريخ وتغيب عنها الذاكرة وتتجه «الى الأمام دائماً دون التوقف عند العقبات». في هذه الزيارة بدا جلياً هذا التوجه، وتبنّاه الفريق الجزائري الذي حضر للزيارة ويقوده الوزير الأول عبد المالك سلال الذي يوصف بأنه «المرمم الرئيس» للعلاقات الجزائرية الفرنسية.
ويقول سياسيون إنه عيّن في المنصب لأداء هذه المهمة. وقد أكد سلال أن الجزائر تريد علاقة استراتيجية مع فرنسا دون التطرق إلى الأمور البالية، والمقصود بالتأكيد المسائل المتصلة بما يسمى «ملف الذاكرة» بين البلدين. وقبله كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة التزم بتوفير كل ما من شأنه إنجاح زيارة هولاند.
وجرى تكذيب ما تردّد عن أن الجزائر تشترط من فرنسا الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية لتطبيع العلاقات وإنهاء الخلاف تماماً معها، رداً على قانون تمجيد الاستعمار الذي أصدره البرلمان الفرنسي في شباط 2005، الذي سبّب إلغاء مشروع معاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار بينهما.
لكن يبدو أنّ فرنسا لم ترفض فقط الاعتذار، بل جاهرت بذلك، وقال رئيسها إنّه «لم يأت إلى هذه البلاد للتعبير عن الندم أو الاعتذار، جئت لأقول ما هو حقيقة وما هو تاريخ». وأضاف، في الكلمة التمهيدية للمؤتمر الصحافي، «هناك حقيقة يجب قولها حول الماضي، وهناك خاصة إرادة للنظر إلى المستقبل، وزيارتي هي للمستقبل، وهي من أجل تعبئة مجتمعينا»، قبل أن يؤكد أن «هذه الزيارة ضرورية، وهي تأتي بمثابة نتيجة وتفتح أيضاً عهداً جديداً أريد أن أبدأه بين فرنسا والجزائر بعد 50 عاماً». ودعا إلى «شراكة استراتيجية من الند إلى الند».
وكان الرئيس الفرنسي قد سلّم نظيره الجزائري مفاتيح مدينة الجزائر التي سلّمها حسين العثماني لقائد جيش الاحتلال الفرنسي صيف عام 1830. في المقابل أهدى بوتفليقة ضيفه خيلين عربيين أصيلين، اسم الأنثى سيجة واسم الذكر سامي.