بينما كانت «تونس تحترق»، بكل ما للكلمة من معنى، ولا سيما أن احتجاجات أمس تميّزت بالنيران التي أضرمت في الكثير من المؤسسات والمتاجر التي تعود ملكيّتها لعائلتي بن علي وزوجته، خرج الرئيس التونسي زين العابدين بن علي على شاشة التلفزيون ليلقي خطاباً مسائياً، كان من المقرر أن يلقيه من على منبر البرلمان في الصباح.
غير أن بن علي فضّل الاعتصام في قصره القرطاجي، ليطلق منه جملة من الوعود أعطت لخطابه «الطابع الاستسلامي»، وسط تشكيك المراقبين في قدرته على احتواء الموقف، ما يترك لبن علي، ربما، فرصة الإطلال مرة أخرى في «خطاب النهاية»، قبل الوصول إلى موعد انتخابات عام 2014، التي قال إنه لن يترشّح إليها.
«فهمتُ التونسيين»، بهذه الجملة اختار بن علي أن يستهل خطابه، معلناً أنه أعطى أوامره لوزير الداخلية أحمد فريعة بوقف إطلاق الرصاص على المتظاهرين. وأشار إلى أنه كلف رئيس الوزراء محمد الغنوشي باتخاذ «الإجراءات المناسبة لخفض أسعار المواد والمرافق الأساسية من خبز وحليب، ورفع ميزانية الدعم».
وفي محاولة للنأي بنفسه عن كل التجاوزات التي ارتكبها وأسرته وعائلة زوجته، ادّعى الرئيس التونسي بأنه «تعرض لعملية مغالطة في ما يتعلق بمجالي الديموقراطية والحريات»، قائلاً إن الأمور «لم تجر كما أرادها أن تكون»، واعداً بفتح مجال الديموقراطية والتعددية الحزبية. وتعهد بدعم الحرية الكاملة للإعلام بكل وسائله، وعدم غلق مواقع الإنترنت، ورفض أي شكل من أشكال الرقابة عليها، «لكن مع الحرص على احترام الأخلاقيات ومبادئ المهنة الإعلامية».
الخطوة الاستسلاميّة الأبرز لبن علي كانت إعلانه عدم «خرق الدستور» والترشّح إلى ولاية رئاسيّة جديدة في عام 2014. ورغم أنه سبق أن خرق الدستور، عبر تعديله في عام 2002، حين فتح عدد مرات الترشّح، فإن الخرق الذي يجري الحديث عنه اليوم هو سنّ الرئيس، إذ تنص المادة 40 من الدستور التونسي على ضرورة أن يكون المرشح للرئاسة يوم تقديم ترشيحه بالغاً من العمر أربعين عاماً على الأقل، وخمسة وسبعين عاماً على الأكثر، وهو العمر الذي يبلغه بن علي اليوم.
رفض خرق الدستور في هذا المجال يعدّ نغمة جديدة على لسان بن علي، الذي سبق أن أطلق أصواتاً في تونس في أيلول الماضي، تنادي بتعديل هذه المادة وفتح المجال أمام ولاية رئاسيّة سادسة. غير أن ما كان متاحاً في أيلول، لم يعد ممكناً اليوم. ولذا، أعلن بن علي «أنه متمسك برفض الرئاسة مدى الحياة، وأنه سيعمل على صون دستور البلاد واحترامه، وعدم الترشّح إلى الانتخابات الرئاسية في عام 2014».
وإضافة إلى هذه التعهدات، أعلن بن على تأليف «لجنة مستقلة» للتحقيق في الأحداث والقتلى الذين سقطوا ومحاسبة المسؤولين. غير أن الكثير من المراقبين رأوا أن الخطاب جاء متأخراً، ولن يكون له أثر على حركة الاحتجاجات، التي زادت رقعتها أمس.
وكان أبرز خبر تناقلته الأوساط في تونس وخارجها، أمس، هو هروب زوجة الرئيس التونسي ليلى الطرابلسي وابنتها، زوجة رجل الأعمال صخر الماطري. وقالت أوساط تونسية لـ«الأخبار» إنّ بن علي باشر بإجلاء عائلته مخافة أن يتعرض لسيناريو شبيه بسيناريو سقوط الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشيسكو. وأكدت أن مبعث خوف بن علي هو أن تزحف حشود المتظاهرين نحو القصر الجمهوري في قرطاج، وأن تساندها قطعات من الجيش، الذي رفض حتى الآن المشاركة في أعمال قمع المتظاهرين، واكتفى بحراسة المرافق العامة والهيئات الدبلوماسية.
وجرت يوم أمس وليل أول من أمس مواجهات في ضواحي العاصمة أدّت إلى سقوط ثمانية قتلى، ليزداد عدد الضحايا إلى 66 شخصاً. وأفاد مراسلو وكالات الأنباء بأنّ أصوات إطلاق النار كانت تُسمع طيلة يوم أمس، كما أضرم المحتجون النيران في مؤسسات ومتاجر تعود ملكيتها لعائلتي بن علي وزوجته.
وفي مدينة الحمّامات الساحلية، أحرقت أمس منتجعات سياحية، ودُمّرت ممتلكات تعود للقطاع الخاص، أو ما بات يعرف بـ«بارونات الفساد». وقال مصدر نقابي إنّ «تونس تحترق»، ولا سيما بعدما امتدت نيران الاحتجاجات نحو مدن أخرى مثل نابل وقفصة في الجنوب. وأضاف إن وتيرة الحرق ارتفعت بصورة كبيرة أمس. واتهم ميليشيات عائدة للنظام بارتكاب أعمال النهب والحرق لتشويه صورة الانتفاضة السلمية.
على صعيد آخر، انسحب الجيش أمس، جزئياً، من العاصمة التونسية، حيث تمركزت وحدات خاصة من القناصة تابعة للشرطة في وسط المدينة، بعد الأنباء التي تحدثت عن بوادر تمرد في صفوف الجيش. لكن مصادر قالت لـ«الأخبار» إن سحب الجيش اقتصر على طريق مرور بن علي بين قصر قرطاج والبرلمان في باردو، حيث كان من المفترض أن يلقي خطاباً.
وفي سياق الإجراءات التي درج بن علي على اتخاذها، أعفى أمس مستشاره عبد الوهاب عبد الله، الذي سبق له أن شغل منصب وزير الخارجية، وكذلك الناطق الرسمي باسم الرئاسة عبد العزيز بن ضياء. وتناقلت وكالات الأنباء خبر استقالة وزير الخارجية كمال مرجان، الذي تولى هذا المنصب في كانون الثاني من السنة الماضية.
وتحت ضغط الاحتجاجات، استقبل رئيس الوزراء محمد الغنوشي وفداً من النقابات وأحزاب المعارضة للاستماع الى المطالب قبل خطاب بن علي.