اخترع نظام الرئيس المصري حسني مبارك، أمس، في اليوم العاشر لـ«ثورة النيل»، استراتيجية جديدة لمحاولة القضاء على المنتفضين المصرّين على محاكمة الرئيس وأركان حكمه. استراتيجية قائمة على 5 أسس: 1 ــ التعاطي مع المتظاهرين المحاصرين في ميدان التحرير على أنهم مجموعة تسيّرهم أجندات أجنبية لتنفيذ مؤامرة كبرى ضدّ دولة «مصر العظيمة»
، بدليل وجود أجانب بينهم، تبيّن أنهم صحافيون كانوا يؤدون عملهم وراح منهم كثر بين قتيل وجريح. 2 ــ زيادة وتيرة العنف المنظَّم، وفي الوقت نفسه التنصُّل من المسؤولية عن البلطجية، الذين تُركوا يرتكبون المزيد من الجرائم المتواصلة بوتيرة أشرس مما كان يحصل أول من أمس، وهو ما تواصل حتى كتابة هذه السطور. 3 ــ محاولة إحداث الفرقة بين صفوف المعارضة بالإعلان عن بدء الحوار رسمياً مع ممثلي جميع الأحزاب وممثلين عن شباب ميدان التحرير. 4 ــ التضحية ببعض الرموز الإضافيين للنظام، يتقدمهم أركان الحكومة السابقة المعروف أنهم من الرجال الأوفياء لمبارك ممن لم يفعلوا سوى تنفيذ أوامره الشخصية هو وأسرته والمجموعة المحيطة بهم.
استراتيجية ظلّ هدفها واحداً: إحباط، بأي ثمن، نجاح «يوم الرحيل» المقرر أن يكون اليوم، لممارسة المزيد من الضغط على النظام للاستسلام. يوم يُتوقّع أن يكون حاسماً، إن كان من ناحية اتخاذه مساراً تصعيدياً ضد الشعب المصري، أو في إطار دفعه للرحيل من دون إسالة المزيد من الدماء الكثيرة التي تسبّب بزهقها حتى الآن. ولأنه يتوقّع أن يكون حاسماً، فقد اتخذت كل الإجراءات التي من شأنها إحباط «يوم الرحيل»؛ فقد اعتقلت الشرطة مساءً سبعة من قادة حركات الاحتجاج الشبابية، بعد قليل من زيارتهم المعارض محمد البرادعي في منزله. وهؤلاء الشبان هم: شادي الغزالي حرب وعمرو صلاح وعمرو عز وأحمد دومة وعمرو عرفات ومصطفى شوقي وناصر عبد الحميد.
وكان يوم أمس امتداداًَ ليوم البلطجية، أول من أمس. أصلاً، لم ينتهِ يوم الأربعاء كي نتحدث عن الخميس. فكما كان متوقعاً، كانت ساعات الفجر دموية بكل معنى الكلمة، إذ إن انسحاب البلطجية من المداخل الكثيرة لميدان التحرير لم يكن يهدف إلا للاستعداد لارتكاب المذبحة: عند الرابعة إلا عشر دقائق بالتحديد فجراً، أوردت فضائية «الجزيرة»، التي لم تقطع بثّها حتى هذه الساعة، نبأً عاجلاً للكشف عن أن الهجوم المسلح المتوقع من البلطجية، قد بدأ بالفعل. وسرعان ما بدأت اتصالات شهود العيان ترد إلى المحطّة للتأكيد أن المهاجمين من ناحية المدخل المحاذي للمتحف الوطني، والمؤلفين من بلطجية ليسوا سوى رجال شرطة أو أمن دولة أو فقراء يستغلهم أرباب عملهم ومساجين أخلي سبيلهم أخيراً لاستئجارهم في ارتكاب الجرائم. هجموا على المعتصمين المرهقين في ميدان التحرير، لكن هذه المرة بالأسلحة النارية الرشاشة بدل سيوفهم وخناجرهم وقنابل المولوتوف. اعتداء غير متكافئ كانت حصيلته غير الرسمية 7 قتلى و1000 جريح أضيفوا إلى آلاف جرحى الأيام العشرة الماضية، وإلى قتلى يوم الأربعاء الذين زادوا على 14. ولم يكن يملك المعتصمون لحماية أنفسهم سوى حواجز معدنية قليلة الفعالية، في ظل الحصار الأمني الذي فُرض عليهم، والذي طال حتى المعدات الطبية التي حاول البعض إدخالها إلى الميدان لمعالجة الجرحى الكثر في أرض المعركة، بحراسة القناصة المنتشرين على سطح فندق «رمسيس» المشرف على الطرق المؤدية إلى ميدان التحرير ومحيطه.
واصل البلطجية الليل بالنهار، فتواصل حصار المتظاهرين المدنيين في ميدانهم، وارتفعت وتيرة اعتداءاتهم، كل ذلك أمام مرأى عناصر الجيش أيضاً، على وقع عناد المتظاهرين وشعارهم الجديد: «بالطول بالعرض حنجيب مبارك الأرض». وهنا ما كان من الجيش إلا إبعاد بعض فرق البلطجية المحاصِرين الذين عادوا وخرقوا سريعاً المنطقة العازلة التي استحدثها الجيش.
ورغم التحريض والاعتداءات الممارَسة ضدّ فضائية «الجزيرة»، تمكنت القناة القطرية من بثّ صور مروّعة لسيارة شرطة تدهس المواطنين المتجهين إلى ميدان التحرير وميدان عبد المنعم رياض لمساعدة رفاقهم، علماً بأنّ ميدان عبد المنعم رياض كان ساحة لأشرس المعارك بعدما تمكن المتظاهرون من استعادة السيطرة على «التحرير» كاملاً ليلاً، رغم أنه «كان يفد إلينا عشرات المصابين كل 15 دقيقة... كان هناك ضحايا في كل مكان» بحسب الطبيب المتطوع محمد عبد الحميد.
ونحو الساعة التاسعة صباحاً، كان الوضع هادئاً في كل أنحاء ميدان التحرير. واللافت أن عدد المحتجّين صباحاً كان نحو عشرة آلاف انتشروا خصوصاً وراء عناصر الجيش، فيما المؤيدون للرئيس المصري كانوا بالعشرات قبل أن تنضمّ إليهم أعداد إضافية.
وظهراً، عادت الاشتباكات بالحجارة وما تيسّر من أسلحة بيضاء قبل أن تهدأ عصراً مع توقعات بحصول جرائم جديدة فجراً، مثلما حصل في اليومين الماضيين. وسجّلت «الجزيرة»، عند التاسعة مساءً، رصد أعداد هائلة «وغير مسبوقة» من المتظاهرين وصلوا إلى ربع مليون، يسيرون باتجاه ميدان التحرير، ليبيتوا ليلتهم هناك، وللاستعداد لليوم المليوني الجديد اليوم.
وخارج القاهرة، كان الآلاف يتظاهرون ضد مبارك في طريق الجيش المشرف على البحر المتوسط في مدينة الإسكندرية، تحت شعار «الإعدام لقاتل شباب مصر»، و«غداً سيكون يوم الرحيل». كذلك كانت الحال في مدينة السويس والفيوم ومدن أخرى بقيت عرضة لجرائم البلطجية، بعيداً عن التغطية الإعلامية المحصورة في ميادين القاهرة.
كذلك كان يوم أمس يوم الصحافيين المصريين والأجانب بامتياز. يوم الصحافيين لأن هدف النظام كان فرض التعتيم الكامل على انتفاضة الشعب المصري، ويوم الأجانب لأن استراتيجية نظام مبارك تقوم على تصوير الوضع على أنه «مؤامرة يحركها أجانب وعملاء بدليل وجود أشخاص غير مصريين بين المعتصمين». وفي السياق، كشفت «الجزيرة» عن اعتقال ثلاثة من صحافييها، إضافة إلى الاعتداء على صحافيين أتراك يونانيين وأميركيين وأوروبيين من جنسيات عدة.
وقُتل شخص أجنبي لم تُعرف جنسيته بعد، ويُعتقَد أنه صحافي على أيدي بلطجية ضربوه حتى الموت بعد الظهر بعدما لحقوا به وهم يصرخون «جاسوس، جاسوس»، فانهالوا عليه ضرباً حتى لفظ أنفاسه.
وكما في الأيام الماضية، بقي أداء الإعلام المصري الحكومي هو الذراع الأقوى لجرائم النظام، وهو ما لم يحتمله حتى بعض موظفي وسائل الإعلام الحكومية أو الموالية. هذا ما حصل مع المسؤولة في «تلفزيون النيل» شهيرة أمين حين قدّمت استقالتها من منصبها، بسبب احتجاجها على أداء القناة.
وفي إطار محاولات السلطة استرضاء المتظاهرين، والالتفاف على إصرارهم على مطالبهم، ذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية أن النائب العام المصري أصدر قراراً بمنع سفر عدد من الوزراء من الحكومة السابقة ومسؤول واحد على الأقل من الحزب الحاكم وتجميد حساباتهم المصرفية.
وقالت مصادر قضائية إن نيابة الأموال العامة العليا بدأت التحقيق معهم. وقالت الوكالة إن الممنوعين من السفر يخضعون للتحقيق للاشتباه في قيامهم بسرقة المال العام والربح غير المشروع والاحتيال.
وهؤلاء الوزراء هم: وزير الداخلية السابق حبيب العادلي ووزير السياحة محمد زهير جرانة ووزير الإسكان أحمد المغربي وأمين التنظيم السابق في الحزب الوطني الحاكم أحمد عز. وجاء في بيان القضاء أن مسؤولين آخرين يخضعون أيضاً لقرار منع السفر الذي سيستمر «لحين عودة الاستقرار الأمني وقيام سلطات التحقيق والسلطات الرقابية بإجراءات التحرّي والتحقيق لتحديد المسؤوليات الجنائية والإدارية في كل تلك الوقائع».
واستعاد النظام ممارسة سلوكه السابق، وهو ما كشفت عنه شركة «فودافون» لشبكات الهاتف المحمول، التي اتهمت السلطات باستخدام شبكتها في إرسال رسائل نصية موالية لمبارك تحدّد مكان تظاهرات التأييد لمبارك وموعدها.
وبينما كان الرئيس الأميركي باراك أوباما مشغولاً بـ«الصلاة من أجل انتهاء العنف في مصر»، كانت رموز المعارضة بمختلف فصائلها تغيب عن المتظاهرين وسط اتهامات معتصمي ميدان التحرير لهم بمحاولة قطف ثمار انتفاضتهم ودمائهم من خلال محاولة الاستحواذ على شيء من كعكة الحكم بواسطة «الحوار» مع الحكم.
وفي مواقف المعارضة، أعلنت جماعة الإخوان المسلمين أنها ستؤلف مع أحزاب المعارضة الأخرى حكومة مؤقتة بعد تنحّي مبارك، «تلغي معاهدة السلام (كامب دايفيد) مع إسرائيل». وقال نائب مرشد الجماعة، رشاد البيومي، في مقابلة، إنه بعد إرغام مبارك على التنحّي، ستعمل الجماعة على تأليف حكومة مؤقتة مع باقي أحزاب المعارضة وتلغي هذه المعاهدة. وشدد البيومي على عداء حزبه المحظور للإدارة الأميركية بسبب دعمها إسرائيل، لافتاً إلى أن «مصر لا تحتاج إلى المساعدة الاقتصادية الأميركية».
أما رئيس «الجمعية الوطنية للتغيير» المعارضة، محمد البرادعي، فقد واصل دعوته الجيش للتدخل فوراً لحماية المواطنين.
بدوره، أوضح رئيس حزب الوفد، السيد البدوي، أن الحزب قرر إبلاغ النائب العام والمدعي العام العسكري بتهم ضد الحزب الوطني تتعلق بإنشاء ميليشيات مسلحة. وكشف أن النظام عرض عليه الحوار، لكنه اعتذر عن عدم حضوره أمس «نظراً الى ما حدث لشباب مصر البريء، لذا أجّلنا الحوار حتى يتوقف هذا الاعتداء على شباب مصر».
وكثرت نداءات المتظاهرين في ميدان التحرير لعدم الاعتراف بأي شخص أو طرف يدّعي تمثيلهم في «الحوار» مع الحكم. وأكّد عمرو صلاح، أحد ممثلي الحركات الشبابية، أن رفاقه «لا يقبلون أي حوار مع النظام إلا بعد تحقيق مطلبنا الرئيسي وهو تنحي الرئيس حسني مبارك». وتابع «ستسمعون بعد ساعات أن فلاناً يحاور النظام باسمنا، وأننا كلّفنا أحزاباً وشخصيات نقل أصواتنا في غرف الحوار. هذا كذب، ونحن نرفض الحوار وليس لدينا أيّ ممثل».
(الأخبار)