الخرطوم ــ لم تكن المصادفة وحدها هي من جعلت التاسع من كانون الثاني في عام 2011، التاريخ الوحيد الذي أوفى به شريكا الحكم في السودان، حسب ما نصّت عليه اتفاقية نيفاشا، دون أن يُؤجّل. وبعدما ساد جو من عدم الثقة بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية أتت مصالح الحكومة السودانية لتدفعها إلى الذهاب قدماً في تنظيم الاستفتاء بموعده، لتسير الرياح بما تشتهي سفن الحركة الشعبية.وجاء إقرار الحكومة السودانية بالاعتراف رسمياً، أول من أمس، بنتائج الاستفتاء بعدما صوّت 98.93 للانفصال، ليحقق اللحظة التاريخية التي انتظرها الجنوبيون طويلاً، في وقت بدأ فيه الشمال بجني ثمار الاعتراف بانفصال الجنوب، إثر إعلان الولايات المتحدة على لسان وزيرة خارجيتها، هيلاري كلينتون، أنها ستكافئ الحكومة السودانية على تعاونها، بشطب السودان عن لائحة الدول المتهمة بالإرهاب.
تعهدات كلينتون أتت بالتزامن مع تأكيد الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه «بالنسبة الى من يفون بالتزاماتهم، سيكون هناك فرصة لمزيد من الازدهار والعلاقات الطبيعية مع الولايات المتحدة».
فمنذ الربع الأخير من العام الماضي تغير الخطاب السياسي في الشمال على مستوى رئاسة الجمهورية، وأضحى ينبئ بإمكان حدوث الانفصال، من دون أن يحمّل قادة المؤتمر الوطني أنفسهم أي مسؤولية عن تقسيم السودان، متباهين في المقابل بأنهم أوقفوا الحرب.
ويعزو كثير من المراقبين تلك النظرة الواقعية إلى اقتناع قادة في الحكومة بلا جدوى استمرار الوحدة مع الجنوب، بالإضافة إلى أن إثبات المؤتمر الوطني جديته في الوفاء بالمواثيق الدولية سيؤدي إلى تحسين صورته أمام المجتمع الدولي الذي تربطه به قضايا كثيرة تحتاج إلى توافق. ولعل أولى تلك القضايا مسألة مذكرتي التوقيف الصادرتين بحق الرئيس السوداني عمر البشير من المحكمة الجنائية الدولية.
وكان لزيارة البشير لعاصمة الجنوب جوبا أكبر الأثر في تلقّيه إشادات من المجتمع الدولي ومجلس الأمن، وفقاً لما يؤكده قادة نافذون داخل الحزب الحاكم. والناظر إلى مجريات السياسة خلال شهر الاستفتاء يلحظ، بوضوح، نشاطاً دبلوماسياً للحكومة في العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، سعياً وراء جني ثمار أخرى من الانفصال. وكانت ثمرة التطبيع مع الولايات المتحدة الأميركية الأكثر نضجاً، بعدما شهدت العلاقات بين البلدين انفراجاً واضحاً.
وفي مقابل سعي الشمال إلى اعتماد أنجع مقاربة تجاه الاستفتاء، كانت الحركة الشعبية تخوض معارك عديدة في سبيل إجراء الاستفتاء في موعده، وتحقيق الانفصال لتكوين دولة مستقلة يعيش فيها الجنوبيون مواطنين من الدرجة الأولى. واتهم قادة من الحركة مراراً المؤتمر الوطني بزعزعة الأمن في الجنوب لتعطيل الاستفتاء، ومحاولة الالتفاف على حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم، من خلال العرض الذي قدّمه البشير، وعُرف بـ«النفط مقابل الوحدة».
وفي المحصلة، لم ينجح الشريكان في جعل الوحدة خياراً جاذباً بالنسبة إلى شعب الجنوب الذي صوّت بغالبية ساحقة للانفصال، وسط محاولات كل منهما إلقاء اللائمة على الآخر، في عدم سعيه للعمل من أجل الوحدة.
وبعدما أعلن البشير قبول حكومته بنتائج الاستفتاء ليبدد كل المخاوف، يستعدّ الشمال لتقبّل قيام دولة جديدة على حدوده الجنوبية. دولة لا يعرف أحد يقيناً مقدرتها على الصمود أمام التحديات الداخلية والإقليمية، ونجاحها في لملمة ما دمرته الحروب طوال سنين لم تشهد فيها المنطقة أية مشاريع تنموية، وسط مخاوف من أن الآمال والتطلعات لمن صوتوا للاستقلال عن الشمال، ستكون ربما أكبر من امكانات الدولة الوليدة، فضلاً عن جانب آخر لا يقل أهمية، ويتمثل في توفير الأمن على الأرض، في ظل المشاكل والنزاعات القبلية الكبيرة في داخل الجنوب، أو تلك المتوقعة بين الجنوب وجواره بما في ذلك الشمال.
مخاوف يعززها فشل الشريكين في حسم القضايا الخلافية، أو ما يعرف بـ«قضايا ما بعد الاستفتاء». وتخطى الجانبان قضايا ترسيم الحدود والجنسية، والمياه، والديون، سعياً وراء تحقيق «الانفصال»، على أن ينظر فيها في لاحقاً، وهو ما يراه بعض المراقبين تصعيباً للوصول إلى اتفاق بشأنها، وبالتالي العودة إلى الحرب.