يذهب كثير من المعلقين والمراقبين الإسرائيليين إلى اعتبار سياسة إسرائيل في مواجهة استحقاق أيلول، المتمثل في نية السلطة الفلسطينية تقديم طلب إلى الأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطين، «متلعثمة، مشوّشة وعديمة الخط الموحد». إذا كان ثمة من يشكّك في غياب استراتيجية إسرائيلية لمواجهة استحقاق أيلول وتداعياته ومفاعيله، فقد جاء موقف وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك ليقطع الشك باليقين،
من خلال دعوته إلى عقد جلسة للمجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية لمناقشة تدهور مكانة إسرائيل السياسية ومناقشة وضعها مقابل الرباعية الدولية وأوروبا. وتنبع أهمية موقف باراك من محورية المنصب الذي يتولّاه، أي وزارة الدفاع، التي يُفترض بها أن تكون شريكة في صياغة وبلورة ووضع أُسس استراتيجية المواجهة الإسرائيلية، ما يعني أن الحكومة الإسرائيلية لم تضع حتى الآن معالم تلك الاستراتيجية.
غير أن غياب الاستراتيجية الإسرائيلية لمواجهة استحقاق الدولة الفلسطينية في أيلول، لا يعني مطلقاً أن الحكومة الإسرائيلية تجلس مكتوفة اليدين في انتظار رؤية مسار الأمور ومآلاتها، ذلك أن الأشهر الماضية شهدت جملة خطوات وإجراءات إسرائيلية هدفت كلها إلى عرقلة الخطوة الفلسطينية ووضع الحواجز أمامها، في ظل استخدام أساليب الترهيب والترغيب، واللجوء إلى سياسة العصا والجزرة مع السلطة الفلسطينية، في محاولة لثنيها عن المضي قدماً في خطوتها. وفي هذا المجال، يمكن الإشارة إلى الحملة الدبلوماسية التي قادها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، شخصياً، والتي تمثلت في سلسلة الزيارات التي قام بها إلى العديد من الدول الأوروبية لكسب تأييدها لموقفه ومعارضتها للخطوة الفلسطينية، أملاًَ بتحقيق «أكثرية نوعية» في مواجهة «الأكثرية التلقائية» المضمونة فلسطينياً في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كذلك يمكن الإشارة إلى التهديدات التي أطلقها في إسرائيل العديد من الوزراء، والتي تضمنت تلويحاً صريحاً وواضحاً باللجوء إلى إجراءات عقابية بحق السلطة الفلسطينية، تطال المجالات الاقتصادية والمالية والأمنية والسياسية، بينها سلب كبار مسؤولي السلطة بطاقات «VIP»، وتقييد حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية، وضم الكتل الاستيطانية وغور الأردن، أو وقف تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية، وإلغاء الاتفاقات مع السلطة الفلسطينية، وفي مقدمتها اتفاقات أوسلو.
كذلك كُشف النقاب عن خطوات إضافية تعدّ لها الحكومة الإسرائيلية تتمثل في شنّ حملة إعلامية، حيث سيُرسل نتنياهو إلى نيويورك قطاراً من الوزراء والناطقين لاحتواء الطلب الفلسطيني. واستبقت وزارة الخارجية الإسرائيلية الحملة الإعلامية بحملة خاصة بها بدأتها على خلفية اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة، واستغلال وتوظيف ما تعرّضت له السفارة للتحذير من مخاطر العنف الذي قد ينشأ عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وإذا كان غياب الاستراتيجية الإسرائيلية للتصدي لاستحقاق أيلول لم يحل دون الشروع في حملة سياسية ودبلوماسية ضد الخطوة الفلسطينية، فالأمر ذاته ينطبق على الاستعدادات الإسرائيلية لمواجهة مفاعيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حيث سُجّل انكفاء تام للمبادرة السياسية مقابل وضع المستويات المهنية الإسرائيلية، السياسية منها والأمنية، مروحة فرضيات واسعة تقابلها سيناريوات عمل متعددة، أقل ما يمكن القول فيها إنها شملت كل الاحتمالات النظرية التي يمكن التفكير فيها في إطار رسم تصوّر لما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وإلى جانب فرضيات العمل المهنية، كان لافتاً أيضاً تقدم المستويات المهنية، السياسية والأمنية والعسكرية، بتوصيات إلى المستوى السياسي، تتناقض مع التوجه السياسي السائد في الحكومة الحالية، القائم على مبدأ المراوحة وانعدام المبادرة السياسية، إذ تضمنت تلك الوثائق والتوصيات دعوات إلى ضرورة قيام الحكومة الإسرائيلية بمبادرة سياسية مع الجانب الفلسطيني لما لهذا الأمر من تأثير إيجابي في المساعدة على احتواء التداعيات السلبية لخطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
تجدر الإشارة إلى أنه في المداولات التي أجراها المستوى السياسي الإسرائيلي، جرى تشخيص ثلاثة مخاطر أساسية يمكنها أن تنبع من اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية. الخطر الأول، هو أن يخرج الفلسطينيون إلى الشوارع بعشرات الآلاف في محاولة لإثارة عنف متواصل على نمط ربيع الشعوب العربية. الثاني، هو أن تستخدم منظمات مؤيّدة للفلسطينيين القرار في الأمم المتحدة لتشديد المقاطعات ضد إسرائيل. والثالث، هو توجه السلطة إلى منظمات دولية لمهاجمة إسرائيل وفرض عقوبات عليها بسبب المستوطنات.
وتشير محافل إسرائيلية مشاركة في المداولات الإسرائيلية، التي تبحث كيفية مواجهة الخطوة الفلسطينية، إلى أنَّ المدرسة السائدة في المستوى السياسي هي مدرسة نتنياهو وليبرمان، ومفادها أنه يجب التعاطي مع قرار الاعتراف بدولة فلسطينية مثلما جرى التعاطي مع تقرير غولدستون. أي أنه ليس لإسرائيل سبيل لمنع اتخاذ القرار، ولهذا يجب إدانته بشدة. ولكن هناك مدرسة أُخرى تنتمي إليها قلة قليلة من الموظفين الكبار في وزارة الخارجية، وفي الشاباك، وضباط في شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي، تحاول قيادة خط تحاول إسرائيل بموجبه التأثير على صيغة القرار الذي يرفع إلى التصويت. والهدف، حسب هذه المجموعة، هو بلورة نص يمنع تحطيم الأواني في اليوم التالي للتصويت في الأمم المتحدة، وربما يسمح باستئناف المفاوضات.