صنعاء | «أتحدث إليكم من العاصمة السياسية الرياض»، عبارة قالها الرئيس علي عبد الله صالح في خطاب أخير له بُث مباشرة من الرياض وكان موجهاً إلى مؤتمر عقدته قبائل يمنية مناصرة له في صنعاء. لم تكن العبارة زلة لسان منه أو خطأ في صياغة الخطاب الذي كان مكتوباً، ولم يكن مرتجلاً كعادة الرئيس صالح عندما يلقي خطاباً جماهيرياً. لم يأبه الرجل المقيم في الرياض منذ حزيران الماضي لمشاعر مواطنيه الذين لا يشعرون بارتياح كبير لكل ما يأتي من المملكة، وذهب مُلغياً عاصمتهم السياسية صنعاء.هل تعمد قول عبارته تلك كمن يقول لليمنيين بصراحة أن لا سلطة لي عليكم بعد اليوم وأن الحل سيكون سعودياً على الرغم من شعوره بأن المملكة قد تخلت عنه، بعدما أعلنت دعمها بقوة لتوقيع المبادرة الخليجية التي حاول مراراً التهرب من توقيعها تحت مبررات شتى.
وكان قد سبق هذا إعلان «جمعة الوفاء للمملكة السعودية وللملك»، احتضنها ميدان السبعين الذي كان صالح يلقي خطاباته الأسبوعية كل جمعة منه. ارتفعت الأعلام السعودية إلى جوار صور الملك عبد الله، فيما تفرغ خطيب الجمعة لتعداد أفضال المملكة على اليمن واليمنيين وكرم ملكها الذي تكفل بعلاج الرئيس صالح ومرافقيه.
الحل سعودي إذاً، قالها صالح، وتأكد ذلك مساء السبت الماضي، عندما صدر تصريح لمسؤول سعودي رفيع المستوى، معلناً أن «نائب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي سيوقّع نيابة عن الرئيس علي عبد الله صالح المبادرة الخليجية في غضون أسبوع». وهو ما يفسره إصدار الرئيس صالح قراره الأخير، الذي قضى بتفويض نائبه للحوار مع المعارضة اليمنية والتوقيع على المبادرة الخليجية. لكن مصدراً إعلامياً في حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، فضل عدم ذكر اسمه، قال لـ«الأخبار» إن «قرار الرئيس صالح بتفويض نائبه كان شكلاً إجرائياً فقط من باب حفظ ماء الوجه، فالجميع يعرف أنه لم تعد هناك سلطة لصالح منذ أن وصل إلى المملكة للعلاج، حتى إن خطاباته يجري إعدادها في المطبخ الملكي ولا يستطيع تعديل حرف واحد فيها».
قرار التفويض عقّب عليه المجلس الوطني لقوى الثورة السلمية في بيان جاء فيه أن القرار الجمهوري الخاص بتفويض الرئيس للنائب عبد ربه منصور هادي بإجراء حوار مع أطراف المعارضة الموقعة لمبادرة مجلس التعاون الخليجي بشأن الوضع في اليمن «هو شأن داخلي للجهة التي تبنته والتي أصدرته... ما يعني أنه يعالج وضعاً داخلياً لأجنحة المؤتمر والسلطة». وهو رد فعل يأتي متماشياً مع رفض المعارضة من الأساس لفكرة الحوار مع السلطة، ما يعني العودة إلى المربع الأول.
لكن بعد موقف المعارضة الواضح من فكرة الحوار هذه، بدا أن الموقف في اليمن لم يعد يحتمل التأجيل أو التسويف، وظهر هذا من خلال الموقف الأميركي، بحسب المتحدثة باسم وزارة الخارجية فيكتوريا نولاند، التي أكدت يوم الخميس الماضي «أن الاتفاق ممكن، وذلك بعد أيام من تفويض صالح إلى نائبه التفاوض مع المعارضة لنقل السلطة»، وأنها تتوقع أن يجري توقيع المبادرة خلال أسبوع. وهو الموقف نفسه الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي، وقال بضرورة توقيع المبادرة في أسرع وقت ممكن.
وما لبث أن أصدر قيادي في حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم تصريحاً قال فيه إن توقيع المبادرة سيكون في خلال 15 يوماً على أقصى تقدير. وقال سلطان البركاني إن هناك حواراً جاداً يجري مع أحزاب المعارضة حول تخلي الرئيس عن السلطة خلال 15 يوماً، وهو الأمر الذي لم تؤكده المعارضة التي تنفي على الدوام وجود حوار مباشر مع حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم. لكن البركاني نفسه عاد ليقول إن الرئيس صالح لن يتنحى «إلا بعد إجراء الانتخابات المبكرة، وذلك وفقاً للدستور اليمني الذي جاء الرئيس صالح بناءً عليه، وبالتالي لا يمكن نقض هذا الدستور ومخالفته تماشياً مع رغبة بعض الأشخاص أو الأحزاب». وهو رأي يسير في اتجاه القوى المتشددة في المؤتمر الشعبي العام التي ترى أن تنحي الرئيس صالح قبل إجراء الانتخابات خيانة لأعضاء حزب المؤتمر الشعبي العام الذين اختاروا صالح رئيساً لهم.
ويأتي إصرار المعارضة على عدم الحوار مع السلطة، أو الاتفاق معها حول أي إجراءات تخص انتخابات رئاسية مبكرة، إلا قبل إعلان تنحي الرئيس صالح ونقل صلاحياته كاملة لنائبه، حتى لا تُستخدَم صلاحيات الرئيس ونفوذه للتأثير على سلامة تلك الانتخابات ووقوعها تحت أي تأثير، وخصوصاً أن قيادة القوات المسلحة والجيش لا تزال بيد أبناء الرئيس وأقاربه، إضافة إلى أمور إشكالية أخرى تتعلق بضرورة تصحيح جداول الناخبين وتأليف لجنة انتخابات جديدة محايدة لا تكون واقعة تحت تأثير القصر الجمهوري، بما يضمن نزاهتها. وكذلك ضرورة إعادة هيكلة الجيش، وهو ما رفضه الجناح المتشدد في حزب المؤتمر، الذي يصر على تأجيل هذا الإجراء إلى ما بعد الانتخابات.
لكن مع ذلك تبدو عقبة أخرى واقفة، أما تنفيذ هذا الانتقال، وذلك بإعلان الرئيس علي عبد الله صالح أنه يجب أن يكون نجله أحمد وهو قائد الحرس الجمهوري مشمولاً في أي اتفاق قادم مع المعارضة، وأن يكون ضمن تشكيلة الحكومة المقبلة. وهو الأمر الذي ترفضه القوى الشبابية في ثورة التغيير جملة وتفصيلاً، حيث قال مراد صالح، أحد القياديين الناشطين في «ساحة التغيير»، لـ«الأخبار» إن «هذه الثورة الشبابية في الأساس لم تقم إلا لتغيير البنية الكاملة للنظام القائم، ولم تقم ضد أشخاص بعينهم». وأضاف: «بقاء نجل الرئيس في السلطة ضمن أي اتفاق مع قوى المعارضة هو أمر لا يعني الشباب من قريب أو من بعيد، بل ويتنافى مع مبدأ عدم التفاوض الذي لا تقره الثورة».
وذهب صالح للقول إن التنازلات التي ظهرت فجأة من القيادي سلطان البركاني لم تكن سوى محاولة لكبح جماح التصعيد الثوري الذي بدأ أمس من خلال المسيرة المليونية التي خرجت إلى شوراع العاصمة صنعاء، والتي أعلن أنها للمرة الأولى ستعمل على اقتحام الخطوط الحمراء الممثلة بالشارع الرئيسي الذي يفصل بين المنطقة التي تسيطر عليها قوات نجل الرئيس علي صالح، والمنطقة التي تسيطر عليها قوات اللواء علي محسن الأحمر. أمر لم يستطع نجل صالح تحمله، فأوعز إلى البلاطجة الذين اعتاد الاعتماد عليهم في مهاجمة المحتجين المطالبين بالتغيير الهجوم على المعتصمين.
وعلى الأثر، تحول مكان المسيرة إلى ساحة لاصطياد المحتجين فقتل 20 شخصاً على الأقل، فيما أصيب ما لا يقل عن 20 نتيجة إطلاق قوات الأمن ومسلحين الرصاص الحي وقنابل الغاز.