على الرغم من تأخُّر رد فعله على تداعيات مجزرة «النخيب»، عاد رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي إلى المشهد السياسي بقوة، ليقطع حبل ما رأى فيه مراقبون مشروع فتيل انفجار يمكن أن تصل شظاياه إلى انفصال محافظة الأنبار عن العراق. أمر المالكي بنقل المعتقلين الثمانية والمتهمين بارتكاب مجزرة «النخيب» من كربلاء إلى بغداد. ثمّ أجرى اتصالاً سريعاً مع نائبه صالح المطلك بقصد التهدئة، ودان «أي محاولة لإهانة أهالي الأنبار أو أي مدينة عراقية أخرى». بعد ذلك، أطلق سراح نصف المعتقلين خلال ساعات «لعدم توافر الأدلة» التي تدينهم، وانتهى التحقيق مع الباقين في اليوم التالي وأطلق سراحهم أيضاً. بعدها، أوفد حليفه، وزيره الثقافة والدفاع بالوكالة، سعدون الدليمي، وآخرين ليجتمعوا بمشايخ ومسؤولي الأنبار في سياق التهدئة وسحب الفتيل، ومن هناك غادروا إلى كربلاء ليكملوا مهمتهم. أوساط مقربة من السلطة العراقية قالت إنّ الوسيطين الأكثر أهمية كانا وزير المالية رافع العيساوي، ورئيس مجلس النواب أسامة النجيفي، اللذين تمكّنا من إيقاف سيل التهديدات التي صدرت من جهات عشائرية في الأنبار، وأقنعا المالكي بضرورة اتخاذ «إجراءات حاسمة». وكان أخطر تهديد قد جاء على لسان الشيخ علي حاتم السليمان، الذي توعّد بتحريم دخول أي مسؤول أو قوات حكومية إلى الأنبار والتصدّي المسلح لهم إذا لم يطلق سراح المعتقلين. الشيخ السليمان معروف في الوسط العراقي بتشنجه وحدّة تصريحاته، وقد سبق له أن دخل في مشادة إعلامية مع النائب سليم الجبوري، القيادي في الحزب الإسلامي، بعدما حمّله هذا الأخير مسؤولية التحريض الذي نجم عنه التفجير الانتحاري في مسجد أم القرى خلال صلاة التراويح في شهر رمضان الماضي، فردّ السليمان بوصفه أنه «قيادي في حزب فاشي وطائفي قتل من العراقيين أكثر مما قتل تنظيم القاعدة وهو متهم بجرائم إرهابية». المعروف أيضاً أنّ الجبوري أستاذ جامعي محسوب على التيار الإسلامي «المستنير»، وسبق له أن خسر عدداً من أفراد أسرته الذين اغتالهم تنظيم «القاعدة». هكذا تمكّن المالكي من سحب الفتيل، وتفادى انفصالاً أو على الأقل تمرداً مسلحاً عشائرياً في الأنبار، وبالتالي فتنة طائفية عشائرية دموية جديدة. وبعد ساعات على قرار المالكي إطلاق سراح المعتقلين، حدث تطوُّر رسّخ مسار التهدئة وأعطاه زخماً إضافياً، عندما توجّه الشيخ أحمد أبو ريشة إلى كربلاء ـــــ ضمن وفد حكومي وشعبي غاب عنه الشيخ السليمان ـــــ لتقديم التعازي إلى ذوي قتلى مجزرة النخيب، معلناً أنه ضمهم إلى القتلى من أسرته الذين قتلهم «القاعدة»، وتعهّد «التكفل بكافة مصاريفهم لأنّ الجريمة حدثت على أرضنا ولسنا مسؤولين عنها، لكننا سنلاحق الجناة». غير أنّ بعض التصريحات التي صدرت عن شخصيات محسوبة على رئيس الحكومة نفسه، وضعها البعض في خانة محاولة إرباك المالكي؛ فوزيره لشؤون المصالحة الوطنية عامر الخزاعي، وهو من حزب المالكي (الدعوة الإسلامية) أصرّ حتى بعد إطلاق سراح المعتقلين الثمانية على أنّ لديه «أدلة تثبت أنهم أعضاء في تنظيم القاعدة». معلومة أيدها قيادي منشق عن «القاعدة» تحول في ما بعد إلى خبير في شؤونها، هو الملا ناظم الجبوري، الذي أشار إلى أن تصريح وزير المصالحة «مبني على معلومات قضائية بحكم التنسيق الكبير بين الوزارة ومجلس القضاء الأعلى خصوصاً». محاولة تشويش أخرى جاءت من كربلاء، حيث كرّر نائب رئيس مجلسها، نصيف الخطابي، قوله إنّ اعتقال المتهمين الثمانية جرى بموجب أوامر قضائية بُنيت على أساس معلومات قدمها جهاز الاستخبارات، لافتاً إلى أن «المتهمين اعترفوا بارتكاب الجريمة»، لكن هذه التشويشات لم تكن كافية لعرقلة مساعي التهدئة التي عمل المالكي على إرسائها، وإنْ كان ــ مثلما يعتقد مراقبون ــ قد جاء على حساب هيبة الدولة وانكشاف ضعف المركز أمام تهديدات العشائر والميليشيات، علماً أنّ التهديد بالانفصال أو بإنشاء إقليم اتحادي شبه مستقل في محافظة الأنبار ليس أمراً جديداً.
هنا تجدر الإشارة إلى أن المؤتمر الصحافي الذي عقده شيخ عشائر الدليم علي حاتم السليمان في اليوم التالي لإطلاق سراح المعتقلين، لم يخلُ من الاستفزاز أو مظاهر الاحتفال بنصر جرى إنجازه؛ فقد رفع الرجل علم النظام السابق بنجومه الخضراء الثلاث خلف الشيخ أحمد أبو ريشة، الذي رفض الاعتذار عن تهديداته، سواء تلك الخاصة بقطع يد حزب «الدعوة الإسلامية» أو بالتمرد والعصيان المسلح والانفصال الإداري الفعلي عن بغداد. وأكد مقربون من سلطات الأنبار المحلية امتعاضهم من تلك التهديدات والتصريحات الحادة، مشيرين إلى أن وضع المحافظة لا يسمح بها، فهي ليست البصرة أو كركوك الغنيتين بالنفط، متخوّفين من أن تدفع الأنبار الثمن مستقبلاً، أي بعد عودة الهدوء وتلاشي أزمة وتداعيات مجزرة النخيب، فتخسر الكثير مما كانت تحصل عليه من المركز، كما أنّ مطّلعين آخرين على الشأن الأمني كشفوا أن بغداد في طريقها لاتخاذ قرار حاسم بالاستغناء عن حراسة مسلحي «الصحوات» للطريق الدولي الذاهب إلى دمشق أو الأردن، وأنها قد بدأت فعلاً بتسيير دوريات وقوات حكومية مع القوافل في بعض المناطق. ويبدو أنّ ذلك الامتعاض هو ما دفع الشيخ السليمان إلى القيام يوم الأحد الماضي بزيارة إلى محافظة كربلاء، بعدما تغيّب عن المشاركة في زيارة أبو ريشة قبلها بيوم، وأعلن من هناك أن «أبناء عشائر الأنبار هم من سيعتقل القتلة»، مشيراً إلى أنهم «يَعدون من قُتِل في النخيب شهداء كل العراق، لا كربلاء وحدها».
وكان لافتاً أن التيار الصدري منح تأييداً قوياً وغير متوقع للمالكي، حين أعلن القيادي فيه، حاكم الزاملي، أنّ قيام رئيس مجلس كربلاء محمد حميد الموسوي باعتقال المشتبه فيهم الثمانية في قضاء الرطبة «أمر ليس من مسؤولياته، ونحن ننتقد هذا التصرف لأنه بدأ يشنج الموقف، ولا سيما أن هناك أجهزة أمنية ومؤسسة عسكرية قادرة على متابعة إلقاء القبض على المجرمين». وقد تكون المفاجأة الأكبر حجماً قد جاءت من زعيم «المجلس الإسلامي الأعلى»، عمار الحكيم، الذي أعلن من مدينة قُم الإيرانية، أن «الشيعة يواجهون الظلم الآن، ظلم الاحتلال وظلم الحكومة». ويبدو أن هذا التصريح، معطوفاً على الزيارة التي قام بها قبل أيام الرجل الثاني في «المجلس الأعلى» ومرشحه لرئاسة الوزراء عادل عبد المهدي، لا يخلوان من الدلالات السياسية، إذ يتساءل مراقبون: هل قرّرت طهران شيئاً جديداً بخصوص إسقاط المالكي واستبداله بزائرها وحليفها القديم الجديد؟