«مؤشرات حمراء» اقتصادياً تقف عليها تونس اليوم، بعد قرابة السنة على بداية ثورة الكرامة يوم 17 كانون الأول الماضي، بعدما باتت على مشارف المعدلات والأرقام التي ما فتئ البنك المركزي التونسي يشير إليها يوماً بعد يوم منذ فرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي يوم 14 كانون الثاني الماضي. ولعل هذه الوضعية، التي وصلت إليها البلاد، ترجع إلى حالة التذبذب السياسي الذي عاشته تونس، من اضطراب فهدوء إلى اضطراب مرة أخرى بعد انتخابات التأسيسي وتأخر تشكيل الحكومة التونسية المؤقتة الرابعة منذ حكومة محمد الغنوشي الأولى. المعدلات تشير في مجملها إلى تراجع كبير في كافة الصعد الإنتاجية الصناعية والفلاحية والخدماتية، أي أن الأزمة ضربت كل مقومات الاقتصاد الفعلي إضافة إلى أنها طاولت المستويات الأخرى من الاقتصاد المالي والنقدي. فمن تراجع في مستوى الإنتاج الصناعي إلى تراجع النشاط السياحي وازدياد نسبة التضخم النقدي وانحسار رؤوس الأموال في سوق الأسهم، وصولاً إلى تدهور الإنتاج الفلاحي رغم معقولية محصول هذا العام، كل هذا دفع المصرف المركزي التونسي إلى إطلاق جرس الإنذار من وصول نسبة النمو إلى معدلات سلبية.
ولعل أجراس الخطر تأتي خاصة في مستوى تراجع الإنتاج الصناعي بـنسبة 12 في المئة خلال الأربعة الأشهر الأولى من هذه السنة، وذلك بعدما تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة بلغت 27 في المائة بالمقارنة مع السنوات الماضية، وذلك نتيجة الوضع الأمني المتذبذب والناتج من عاملين اثنين:
- العامل الأول متعلق بالأمن الإقليمي المتردي، وخاصة من الجار الليبي الذي تُبين التقارير أن الأسلحة تنشر فيه «انتشار النار في الهشيم»، وهو ما يبرر إلى حد كبير التخوف من اتساع دائرة انتشاره ليشمل الجارين التونسي والجزائري.
- العامل الثاني مرتبط بالاضطراب الأمني الداخلي في تونس وخاصة في المناطق الداخلية، وذلك تحت طائلة عدة عوامل تصب في مجملها في مطلب أساسي وهو التشغيل وبعض الحساسية الزائدة من طرف البعض. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فقد شهدت محافظة قفصة في الجنوب التونسي خلال الأسابيع الماضية أعمال تخريب ونهب وسلب، كما تفجر تمرد شعبي بسبب تعليق قائمة بأسماء المنتدبين للعمل بشركة «فسفاط قفصة» لم تتضمن بعض أسماء الذين ترشحوا للعمل، فوقعت المصيبة. والأسباب نفسها تسببت في إحداث صدام بين «عرشين» (قبيلتين) في مدينة المتلوي في نفس المحافظة (قفصة).
هذه الحوادث أسفرت إلى حد بعيد عن تراجع الإنتاج المنجمي وخاصة من مادة الفسفاط إلى أكثر من 50 في المائة، إذ إن حركات الإضراب والاحتجاج لم تتوقف في هذا القطاع الحساس في الاقتصاد التونسي منذ الثورة.
نفس الأسباب الأمنية أدت إلى تراجع عماد آخر من أعمدة الاقتصاد وهي السياحة، التي تدنت في مجملها إلى حدود 40 في المئة، مما تسبب في تراجع حركة نقل المسافرين بنسبة 25 في المئة، وهذا ما جعل البلاد تخسر 7 آلاف موطن شغل شهرياً وفق مصادر حكومية، لتنضاف بذلك إلى افرازات سلبية من افرازات السلم الاجتماعي القلق الذي تشهده تونس منذ فترة، ولترتفع نسبة البطالة في البلاد من 13 في المئة السنة الماضية إلى حدود 20 في المئة في شهر تشرين الثاني المنقضي، وهو ما يمثل 800 ألف طالب شغل، ثلثهم فقد عمله بعد الثورة وذلك بعد إغلاق المؤسسات الأجنبية في البلاد لأبوابها بعد سلسلة إضرابات المطالبة بزيادة الأجور.
ولعل كل المعطيات دفعت بالميزان التجاري إلى السلب في مؤشرات لم تشهدها البلاد من قبل. فاستناداً إلى بعض المؤشرات التي تسربت من البنك المركزي التونسي فإن احتياط العملة الصعبة في تراجع مستمر، إذ تراجع من 13 مليار دينار (150 يوماً من الواردات) أواخر سنة 2010 إلى 10 مليارات دينار (110 ايام من الواردات) في الفترة القليلة الماضية. كما أن البلاد بدأت تقترب من الخط الأحمر بالنسبة إلى الاحتياطي التونسي، خصوصاً أن نسق الصادرات مستمر في التراجع، مع استمرار تدهور الصادرات في قطاعي الفسفاط والسياحة، وتراجع التحويلات المالية للتونسيين المقيمين والذي تدنى بنسبة 12.5 بالمئة بالمقارنة مع السنة الماضية.
وعليه، تظهر تطورات الأوضاع أن الثورة الليبية فرضت واقعاً اقتصادياً جديداً، حتم على مئات المهاجرين إلى ليبيا الرجوع إلى تونس، ما جعل البلاد تعيش حالة من الاستنفار الاقتصادي بما أن الجنوب التونسي تحول بين ليلة وضحاها في فجر ثورة «17 فبراير» إلى قاعدة أمامية لاستقبال اللاجئين من مختلف الجنسيات، ما شكل عبئاً جديداً على ميزانية الدولة رغم المساعدات الدولية التي قدمت إليهم.
والثورة الليبية نفسها تسببت في إغلاق كثير من المؤسسات التي تعمل على الاستيراد والتصدير من ليبيا، ما تسبب في فقدان بعض روافد العملة الصعبة وفقدان بعض مواطن الشغل، وخاصةً أن المبادلات التجارية البينية بين البلدين تعتبر كبيرة.
حجر الرحى الثاني، وهو حجر بدأ منذ عامين بالتصلب شيئاً فشيئاً، تمثل في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها بلدان الاتحاد الأوروبي نتيجة أزمة الديون السيادية التي تعاني منها والتي تطلبت منها «شد الأحزمة على البطون»، إضافةً إلى الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالأسواق المالية منذ سنة 2006. وهي أزمة أثرت مباشرة على العملة الأوروبية اليورو ومباشرة على حركات المبادلات الأوروبية البينية والثنائية، وخاصة مع بلدان جنوب المتوسط ومنها تونس، لذلك فإن الاقتصاد التونسي يواجه وسيواجه ضغوطاً كبيرة في الفترة المقبلة. وتأسيساً على ذلك، فإن الحالة الصعبة التي تمر بها تونس اقتصادياً تتطلب حلولاً مستعجلة وأخرى على المدى الطويل.
فالحلول المستعجلة تكمن خاصة في ارساء الاستقرار السياسي شرطاً أول، في محاولة للحفاظ على السلم الأهلي تمهيداً لانجاح الموسم السياحي المقبل كأول ضمادة لوقف نزيف العملة الصعبة، ثم محاولة فتح أسواق جديدة واعدة، إضافة إلى أن الميزانية القادمة والتي لم يشرع في التشاور حولها، لا بد أن تشمل الاستدانة من الخارج في المستقبل.